الحج هذه الرحلة الإلهية


الحمد لله ثم الحمد لله،الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ،الحمد الذي عَزَّ جَاهُهُ،وجَلَّ ثناؤُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ،الحمد لله الذي مَنْ توكَّلَ عليهِ كفَاهُ،ومَنْ لجأَ إليهِ آوَاهُ،ومَنْ سأَلَهُ أعطَاهُ. قال تعالى:.(وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ).صدق الله العظيم.
إن الله تعالى جعل لنا ختام سنتنا الهجرية مسك وخير،جعله شهرٌ يخرج فيه المرء كيوم ولدته أمه،نقيا ًطاهرا من الذنوب والمعاصي، ويكون ذلك بشعائر وأركان فرضها الله عز وجل تعالى علينا رحمة منه بنا؛لأنه يريد بذلك أن نستغفر لذنوبنا طوال السنة؛وذلك لأنه رب كريم رحيم يريد لنا الخير والرحمة،وأن تكون صحيفة أعمالنا مطوية في نهاية السنة بفعل الخيرات والطاعات.هذه الشعائر هي شعائر الحج.الحج الذي هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام ودعائمه الخمس،وفرض من فروضه، وهو فرض عين على المكلف المستطيع مرة واحدة في العمر.قال تعالى:(وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ).وقال تعالى:.(وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ).فإن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وسن سننا فلا تتركوها،وأن الله تبارك وتعالى قد فرض على عباده الحج فريضة من أكبر وأعظم الفرائض.الحج هو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات ينتقل المسلم فيها بروحه وبدنه وقلبه إلى البلد الأمين لمناجاة رب العالمين.ما أروعها من رحلة وما أعظمه من منظر،فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين؟وهل رأيت لباساً قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟وهل رأيت رؤوساً أعز وأكرم عند الله من رؤوس المحلقين والمقصرين؟وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟وهل سمعت نظماً وشعرا أروع وأعذب من تلبية الملبين.قال صلى الله عليه وسلم:ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا.إنه موسم الحج العظيم لم يبق عليه إلا أياما معدودات ويحل علينا ببركاته وفضله.وبهذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟قال: إيمان بالله ورسوله قيل:ثم ماذا؟قال:الجهاد في سبيل الله،قيل:ثم ماذا؟قال:حج مبرور. وقال صلى الله عليه وسلم:من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.إخوتي الأحبة:إن الحجاج والعمار وفد الله إن سألوه أعطاهم،وإن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم،ونفقاتهم في سبيل الله مخلوفة عليهم، يباهي الله بهم ملائكته ويتجلى لهم ويقول:انصرفوا مغفوراً لكم.فالحج عبادة يتقرب بها المسلمون إلى خالقهم،فتصفو نفوسهم ويلتقون على المودة يربط بينهم الإيمان،رغم تباعد الأقطار واختلاف الديار.والمتأمل في نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالحج تتجلى له أهداف سامية وغايات نبيلة وأسرار عظيمة للحج،منها:أن في الحج امتثال لأوامر الله واستجابة لندائه وتتجلى فيه الطاعة الخالصة والإسلام الحق وصدق الله العظيم عندما قال:(وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ).وفي الحج أيضا تأسٍ بالخليلين واقتداء بالصالحين(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ).وفي الحج أيضا ارتباط وثيق بمهبط الوحي،إذ أن الحج رحلة إلى الديار المقدسة مهبط الوحي ومتنزل التشريع،وكلما ارتبط المسلم بهذه البقاع الطاهرة كلما كان أقرب إلى الاقتداء بالرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحج أيضا جمع للناس على مبدأ التوحيد فهاهم يتوافدون على الديار المقدسة في وقت واحد ويجتمعون في أماكن محددة ويناجون رباً واحداً مرددين نداءً واحداً لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك لبيك،يرفعون كلمة التوحيد ويعتصمون بالحبل المتين وصدق الله العظيم حينما قال:(إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ).وفي الحج أيضا إعلان عملي لمبدأ المساواة حينما يقف الناس موقفاً واحداً لا تفاضل بينهم في أي عرض من أعراض الدنيا الزائلة.وفي الحج أيضا تذكير بالرحيل إلى الدار الآخرة،فالحاج يغادر أوطانه التي ألفها ونشأ في ربوعها،وكذا الميت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا،والميت يجرد من ثيابه وكذا الحاج يتجرد من المخيط طاعة لله تعالى،والميت يغسل بعد وفاته،وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته،والميت يكفن في لفائف بيضاء هي لباسه في دار البرزخ،والحاج يلبس رداءً وإزاراً أبيضين لمناسكه،وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج،وفي يوم القيامة يبعث الناس ويساقون إلى الموقف.(يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَٰلَمِينَ).وفي الحج أيضا تدريب عملي على الصبر والطاعة فالمسلم الذي يؤدي هذه الفريضة يتدرب عملياً على الصبر بكل أنواعه،الصبر على مشقة الطاعة والصبر عما حرم الله، والصبر على ما يصيب الحاج من المشقة والجهد والبعد عن الأهل والأحباب،إلى غير ذلك من ضروب الصبر المختلفة.وفي الحج من الأجور والثواب ما لا يقع تحت العد والحصر يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة،وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول:هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني،فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك،وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك،وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة.فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.فإن الناظر إلى أرض الحرمين في موسم الحج يرى عجباً،ويزداد لوعةً وشوقاً،وهو يتأمل مواكب الإيمان،وقوافل عباد الرحمن،جاؤوا عن رغبة وطواعية،ألسنتهم تلهج داعية،وأعينهم باكية،تسأل الله الرحمة والعافية،هديرهم تكبير، وحديثهم تسبيح،ونداؤهم تلبية،ودعاؤهم تهليل،ومشيهم عبادة،وزحفهم جهاد،وسفرهم تقرب،وغايتهم كل غايتهم رضوان الله ومغفرته،ترى مظهراً من مظاهر العبودية الخالصة لله رب العالمين.فما أجمل تلك المواقف المشرفة، والبقاع المطهرة،والأزمنة المباركة.كم فيها من ضارع منكسر؟كم فيها من رجل بادر الله بالتوبة فبادره بالغفران،ألوف مؤلفة،تنادي الله بلغات مختلفة، والله جل جلاله سميع بصير لا تختلف عليه اللغات ولا يشغله سؤال عن سؤال سبحانه من اله.إن الحج فريضة عظيمة لبى نداءها المسلمون تلبية لأمر ربهم،وانقياداً لسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم،وابتغاء المغفرة من ذنوبهم،ونيل جنة ربهم،فتجد الحجيج قد تركوا أوطانهم وأموالهم وأهليهم وذويهم،وخرجوا متجردين من ثيابهم،لابسين إحرامهم،حاسرين عن رؤوسهم،متواضعين لربهم،متذللين إلى خالقهم، راغبين راهبين إلى مولاهم.وعند مواقيت الإحرام تجد أشكالهم قد تغيرت وتبدلت، ومظاهر الترف والاختلاف قد اختفت،فقد خلع الجميع لباس العجب والكبر والغرور،ولبسوا ثياباً واحدة،فلا فرق بين غني ولا فقير،ولا قوي ولا ضعيف،ولا عربي ولا أعجمي،ولا رئيس ولا مرؤوس،فالكل سواسية متواضعين لربهم، متذللين لخالقهم،مبتغين فضل ربهم.فتجدهم أمة واحدة مجتمعة،مترابطين متعاونين على الطاعة والخير،الجميع سواسية كأسنان المشط،وهذا مصداق قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).فالحج مدرسة قائمة بذاتها مليئة بالعبر والدروس والعظات لمن أراد أن يتعلم منها سواء أكان حاجا أم لا.فمَن فاز بمغنَم الحجّ حقيقٌ به أن يعودَ إلى بلدِه بحالٍ زكية صالحةٍ مطمئنّة، مليئة بالإيمان والتقوى،نفسُه قويمةُ السّلوك،ذاتُ عزيمةٍ قويَّة في الطّاعَة وإقبالٍ على الربّ.ومن أمَارة الرّضَا والقبولِ فِعلُ الحسنةِ بعدَ الحسنة،وإذا انقلَب الحاجّ إلى ديارِه فليكُن فيها قدوةً بالصلاح والاستقامة والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ والتمسّك بالدين فرحيلُك مِن المشاعر المقدسة تذكيرٌ لك بالرّحيل من هذه الدّار الدنيا، فأنت في سفَر سيعقبُه سفر إلى قبرك،فتزوّد من هذه لتلك،يقول ابن القيم رحمه الله:الناسُ منذ خُلِقوا لم يزالوا مسافرين، وليسَ لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار.فاغتنِموا مواسمَ العبادة قبل فواتها،فالحياةُ مغنم،والأيام معدودة،والأعمارُ قصيرة.فإننا نسأل الله عز وجل أن يتقبل من حجاج بيته الحرام طوافهم وسعيهم ورميهم،وان يغفر لهم ذنوبهم،وان يرزقنا ثوابا من ثوابهم وان يكتب لنا ولكم تأدية فريضة الحج، إن لم يكن في هذا العام ففي أعوام قادمة إن شاء الله رب العالمين.اللهم آمين.
جامعة العلوم الإسلامية العالمية
كلية الشيخ نوح للشريعة والقانون



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات