الغائب الذي يجب أن ينتظره كل فرد منا


الغائبُ الذي يجب أن ينتظرَه كلُ فردٍ منا : الموت , وهو أحدُ الواعِظَين الَّلذين تركهما فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الواعظُ الصامتُ , والواعظُ الأخر , الواعظ الناطق وهو القران الكريم , والسعيد من انتبه لهَذين الواعِظَين فاتعظ , والشقيُّ من غفل عنهما حتى مات , فاستيقظ ولكن بعد فوات الأوان .
إننا في رحلة إلى الله مستمرة , في رحلة إلى الله لا تنقطع , وبهذا يقول الحق جلّ وعلا ( واعبدْ رَبَّكَ حتى يَأتيَك اليَقين ) أتدرون ما هو اليقين يرحمكم الله إنه الموتُ سرًّ إلى الله .
تعالَوا بنا لأحدثكم عن هذه الحقيقة , التي طالما تأفف منها كثيرٌ من الناس , طالما اشمأزَّ من الحديث عنها كثيرٌ من الناس .
ويا عجباً ! لأناسٍ يشمئزون من الحديث عن هذه الحقيقة , ويتأففون ويفرّون من ذكرها , وهم يعلمون أن رسولَهم – صلى الله عليه وسلم – هو القائل : أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرّق الجماعات فإنه ما ذكر في كثيرٍ - أي من المعاصي - إلا قلله –- وما ذكر في قليلٍ – أي من الطاعات - إلا كثَّره .
يا عجباً ! لأناس يشمئزون من الحديث عن الموت , ويتأففون من ذكره وفتحِ ملفِ الحديثِ عنه , مع العلم , أنّهم على موعدٍ أكيد مع هذه الحقيقة , ولن يستطيعوا الإفلات منها . وقد جاء في البيان الإلهي الصادر في سورة آل عمران برقم ( 180 ) ما يؤكد ذلك , قال الله تعالى : ( كلُ نفسٍ ذائقة الموتِ وإنّما توفون أًجورَكم يومَ القيامةِ ) .
وقد زاد الحقيقةَ تأكيداً فقال : ( أينما تكونوا يُدرِكْكم الموتً ولو كًنتم في بروجٍ مشيدة ) وقوله تعالى : ( قلْ إنّ الموتَ الذي تفرّونَ مِنْه فإنّه مًلاقيكم )
الموت يضعنا في دِهليز , بين يدي حسابِ الله سبحانه وتعالى , والقبرً سيكون انعكاساً لطبيعة رحلتنا إلى الله , فإن كانت رحلتُنا إلى الله , رحلةَ إقبالٍ كان القبر علينا روضةً من رياض الجنة , فلنستمعْ إلى قول نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - : ( من أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ اللهُ لقاءَه , ومَنْ كره لقاءَ الله كره اللهُ لقاءَه , قالت عائشة : يا رسول الله أهو الموت ؟ قال : ( ليس بذلك , ولكنَّ العبدَ إذا دنا موتُه , فبشِّر بمحبة الله سبحانه تعالى ورضوانه , أحبَّ لقاء الله , وإذا دنا الموتُ من العبد , فبشَّره الله سبحانه وتعالى بمقته وغضبه, كره لقاء الله فكره الله لقاءه )
وصدق الله العظيم إذ يقول :( فأمّا إنْ كان من المقربين فرَوحٌ وريحانٌ وجنةُ نعيم )
فهل تتصور أن يكون في الدنيا كلِّها , شيءٌ أغلى لديك من إقبالك على الله تعالى؟ وما قيمة الدنيا الفانية , هذه الدنيا العفنة , بعدما تتلقى هذه البشرى من مَولاك الكريم ( من أحبّ لقاءَ اللهِ أحبّ اللهُ لقاءَه ) فلنقرأْ سوية قولَهً تعالى : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ولكنْ متى يكون هذا ؟ إنه قُبَيل الموت رحمةًً ولطفاً من الله , حتى تُغالبَ لذّاتها آلام الموت فتتغلبَ عليها .
ولكنْ اضمنْ لنفسك , أن يبشّرك الله هذه البشرى , تجد أنّ الموتَ لذةُ وانه سعادةُ ما مثلها سعادة , كان أبو الدر داء – رضي الله عنه – يقول : ( ما مِن مؤمن إلّا والموت خير له من الحياة فمن لم يصدقْني فإنّ الله يقول : ( وما عندَ الله خيرٌ للأبرار )
الموت جسر يًوصِلً الحبيب إلى حبيبه , رًوي أن ملك الموت – عليه السلام – جاء إلى سيدنا إبراهيم – عليه السلام – ليقبضَ روحه فقال له إبراهيم : " يا ملك الموت , هل رأيت خليلا يقبضُ روح خليله ؟ " فعرَج ملكُ الموت إلى ربه فقال له ربه : ارجع إلى خليلي إبراهيم وقل له : هل رأيت خليلا يفر من لقاء خليله ؟ فقال له بما قاله له ربه : فقال عليه السلام : اقبض روحي الساعة – أي الآن - .
أمّا إنْ كانت رحلةً إدبارٍ , وتأففٍ , وتضجرٍ , وإعراضٍ عن أوامره , فاعلم أنّ القبرَ سيكون حفرة من حفر النار .
سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – كان يقف على القبر , فيبكي بكاء الثكلى على وحيدها , حتى يسقطَ مغشياً عليه , فَيُحمَل إلى بيته كالجنازة , فسُئِل ذات مرة لِمَ تفعل هذا كلَّه على القبر ؟ قال : سمعت حبيبي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( القبرُ أولُ منزلةٍ من منازلِ الآخرة , إن نجا منه فما بعده أيسر , وإن لم ينجُ منه فما بعده شر )
ولذا سًمّيت حقيقة الموت في القران الكريم بالحق فقال جل وعلا : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} . لابدَّ أن تستقر هذه الحقيقة الكبرى , في قلوبنا , وعقولنا , ووجداننا, لذلك انتبه أخي في الله , فإنّ الموت قادم لا محالة . وجاءت سكرة الموت بالحقِّ , والحقُ انَّك ستموت , والله حي لا يموت , وجاءت سكرة الموت بالحق , والحق انك ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو العذاب , وجاءت سكرة الموت بالحقّ , والحقُّ انك سترى قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار , وجاءت سكرة الموت بالحقِّ , والحقُّ انَّك سترى مِقْعدَك في الجنة أو النار ذلك ما كنت منه تحيد ... ذلك ما كنت منه تهرب , ذلك ما كنت منه تخاف , ذلك ما كنت منه تجري .
تحيدً إلى الطبيب إذا جاءك المرض , خوفا من الموت , تحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع , هربا من الموت , تحيد منه إلى الشراب , إذا أحسست بالظمأ رعبا من الموت , لابدَّ من يوم اقترب أو ابتعد , من أن يستيقظ الناس , ويقرؤوا على صفحات الجرائد اسم كل منا في صفحة النعي , لابدّ أن يقرأ الناس { إنّا لله وإنّا إليّه راجعون } آل فلان ينعون إليكم بمزيد من الأسى واللوعة فقيدهم الغالي فلان... أنصحك أن تكتبها منذ الآن , وبخط يدك , لأنه لا بد منها , وأن تضعَ نصب عينيك : عبدي رجعوا وتركوك , وفي التراب دفنوك , ولو بقوا معك ما نفعوك ,ولم يبقَ إلا أنا وأنت , وأنا الحيُّ الذي لا يموت .
لذا كان بعض العارفين بالله , قد اشترى قبرا , وأبقاه مفتوحا , وكان في كل خميس يتوجه إليه , وينزل فيه , ويتمدد على أرضه , ثم يخاطب نفسه قائلا : ويحك يا نفسُ , انَّك تفرحين بزيادة مالك ولا تحزنين بنقصان عمرك , وما نفع مال يزيد وعمر ينقص , ويحك يا نفس , تُعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك , وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك , فكم من مستقبل يومه لا يستكمله , وكم من مؤمل في الخير لا يبلغه , ثم يتلو قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) فيقول : " قومي يا نفسُ , فقد أرجعناك , ثم يقوم ويِعضُ الناس بما يرقق قلوبهم .
ولكن المادّيين من الحيتان والهوامير , الذين يؤمنون بجسد لا روح معه ,ودنيا لا آخرة بعدها , هم مبتورو الحسّ, مشوهو البصيرة , وفكرتُهم عن الحياة تهوي بقيمة البشر إلى الحضيض .
أكلٌ شهيٌّ , ولباسٌ فخمٌ , وقصرٌ شاهقٌ , وليالٍ في المجون والخلاعة والمرح واللهو الحرام , من المال الحرام , واعتداءٌ على حقوق الشعب , ونهبُ مقدراته ومصِّ دمائه , وتركه يتسول لقمته من فضلاتهم وقمامتهم , ثم يُختَم الكيان الإنساني كله بما فيه من ذكاء وطموح في حفرة مظلمة , هي نهايتة الأخيرة , لا يفترق عن أي دابة . ألا ما أهون الوجود و أخسّه , لو كان محكوما بهذا الإطار الوضيع .
إن الفجيعة الكبرى , يوم أن يودَّعَ هؤلاء الظلمة للقاء ربهم , فإذا هم بعد الموت , يعرفون كل شيء , ويدركون أنهم كانوا في ضلال بعيد , قال الله تعالى : (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ )
قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ )(الزمر 47)
أقول لهؤلاء : إن الموت يتربص بكم , وإنّه يختبئ خلف آذانكم , وإنّه ربما يفاجئكم في أي لحظة .
قدِّروا أن الموت قد فاجأكم , وأنكم تعانون الآن من ألم ضجعة الموت , ومن سكراته , وقد ولّت عنكم شهواتكم , وملذّاتكم .
سؤال أسأله لهؤلاء الدنيويين : ما القرار الذي ستتخذونه في هذه الحالة ؟ لا شكَّ أنّه القرار الذي ترجمه لنا بيان الله عز وجلّ إذ قال :( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) ثم ذكر البيان الإلهي تعليقا على ذلك بقوله : (كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) كلا لقد رُفض طلبك وخاب ظنك .
فلو قُدِّر لهم أن يصلوا إلى تلك الحالة , لأقلعوا عن ظلمهم , ولأعادوا ما نهبوه من أموال الشعب للشعب , وتابوا إلى الله توبة نصوحا , ولكنهم يكرهون الموت ويحبون الدنيا . سأل سليمان بن عبد الملك أبا حازم الأعرج التابعي الجليل : ما لنا نكره الموت ونحب الحياة فقال أبو حازم : لأنكم عمرتم دنياكم وخرّبتم أخراكم فأنتم تكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب فسأله : كيف القدوم على الله فقال : يختلف باختلاف العبيد , فالعارف بالله المخلص لمولاه , يكون قدومه على الدار الآخرة , كقدوم الولد الوحيد على أمه يعود إليها بعد طول غياب , وأمّا الفاسق الظالم المفرّط في جنب الله , فيكون قدومه على الدار كقدوم العبد الآبق – الهارب - يرجع إلى سيده مسلسلا بالأغلال , ثم سأله سلميان : ما لنا عند الله ؟ قال : اعرض نفسك على كتاب الله . قال : في أي المواضع أُصيب ذلك ؟ قال : في قوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .
قال سلميان : " يا أبا حازم , أقم عندنا فنصيبَ منك , قال : ؟أخاف أن أركن للذين ظلموا فتمسنيّ النار , قال سليمان : خُذْ هذا المال , فقال أبو حازم : مالي خيرٌ من مالك , قال سليمان : وما مالُكَ ؟ قال : الثقةُ بالله , والاعتمادُ على الله , والرضا بما عند الله " . ولا تنسَ يا أميرَ المؤمنين أن تضعَ نصب عينيك دائماً قول الله تعالى :{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}. اللهم أختم بالباقيات الصالحات أعمالنا . اللهم برحمتك الواسعة عمَّنا. اللهم اكفنا شرّ ما أهمنا وغمنا. اللهم على الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا . وأنت راض عنا يا كريم .

Montaser1956@hotmail.com



تعليقات القراء

على
هل انت سياسى ام واعظ دينى؟؟؟ كل يوم شكل اثبت على شى يارجل
27-09-2011 09:18 PM
خالد التميمي
الى الاخ علي ... ما الضير في ان الكاتب يتكلم في الدين وايضا في السياسة بأعتقادي انه لا ضير في ذلك ابدا وهذا المقال الذي يتحدث فيه فضيلة الشيخ من المقالات الرائعة جدا لان معظم الناس يتناسون الموت ولا يأتي على خاطرهم ابدا فما المانع ان يذكرنا بالموت من اجل ان نجهّز انفسا لشيء لا بد منه وهو الموت . فبارك الله فيك ايها الشيخ الفاضل وكثر من امثالك
27-09-2011 10:09 PM
سناء جميل
ما احوجنا لمثل هذه الرقائق لتليين قلوبنا الصدئة التي غلفتها الدنيا فلم تبق منها مقدار خرم ابرة لتتأثر بالموعظة اسأل الله العلي الفدير ان يمن علينا برحمته , اشكر اخي الفاضل الشيخ منتصر على هذا المقال الاكثر من رائع واسأل الله ان يكون في ميزان حسناته يوم القيامة آآآمين .
28-09-2011 12:01 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات