مرحى لهذا "الراعي" الامين


صدقوني ان المبادئ السامية مازالت تملك القدرة على الفعل والتأثير، وتتحلى بالكثير من الرونق والالق، وتستقطب الوفير من باقات التعظيم والاحترام، وتخلق مبررات وجودها في كل زمان ومكان، مهما احلولك الليل واختلفت الظروف والاقدار•
صدقوني ان المواقف الوطنية والقومية والاخلاقية الصادقة والواضحة مازالت تزكّي اصحابها، وترفع من شأنهم، وتُعلي من قدرهم، وتعود عليهم بالثناء والتقدير والاعجاب، رغم كل ما يكابدونه من عناء، ويتكبدونه من خسائر واضرار، ويتعرضون له من اذى وتجريح واتهام•
قبل بضعة ايام حلّق البطريرك الماروني بشارة الراعي بنا في فضاءات الدهشة والانبهار، واهتزت لتصريحات هذا الرمز المسيحي اللبناني الاصيل ضمائر احرار العرب وشرفائهم، حين تسلح بعروبته في قلب باريس، وباغت حكامها من حيث لا يحتسبون، فدافع عن شرعية سلاح حزب الله، واشترط لنزعه عودة اللاجئين الفلسطينيين الى بلادهم، كما دافع عن المشروع الاصلاحي للقيادة السورية، واوضح ان سوريا العلمانية والمتعددة الطوائف والمذاهب والاعراق لا تحتمل حكماً دينياً وطائفياً، والا تحولت الى عراق جديد، ثم ما لبث ان انتقد بصريح العبارة وفصيحها ذلك الانحياز الاوروبي والامريكي المطلق لاسرائيل، ودعا المجتمع الدولي الى تحمل مسؤولياته في تحقيق السلام العادل واقامة دولة فلسطينية مستقلة•
هذه الاقوال والتصريحات ليست خارقة للعادة وخارجة عن المألوف السياسي المتداول، وقد تعتبر عادية ومكررة لو انها صدرت عن حاكم او مسؤول سياسي عربي•• ولكنها ارتقت الى مستوى التميز والاعجاز لانها انطلقت من قريحة رأس الكنيسة المارونية في الشرق، وربان العمل الروحي والايماني والانساني البعيد عن احابيل السياسة ومناوراتها، وخليفة البطريرك السابق نصر الله صفير الذي كان شديد الكراهية للعروبة وسوريا وفلسطين، ومتين الولاء لعواصم الاستعمار والصهيونية•
لقد اكتسبت هذه التصريحات اهميتها الاستثنائية من اهمية قائلها، ومن صدق مضمونها وجرأة ما ورد فيها، بل حتى من حجم المفاجأة التي واكبتها، سواء أكانت مفاجأة سارة لشرفاء العرب والعالم، او مفاجأة محزنة لرهط الاعداء والعملاء الذين لم يتورعوا عن شن اعنف هجمة تشهير بهذا \\\"الراعي الصالح\\\"، بدءاً من اوباما وساركوزي ونتنياهو، وانتهاء بسمير جعجع وبطرس حرب ونائلة معوض، ورابعهم سعد الحريري•
لا يضير السحاب نباح الكلاب، ولا ينتقص من قدر هذا العملاق العربي الماروني تهجم الاقزام عليه وتحاملهم على اقواله•• فيكفيه فخراً انه قد وضع اوضح النقاط على اصرح الحروف، وحسبه مجداً ان احرار العرب كلهم معه ومع مواقفه وتصريحاته، بعدما جدد الدور الوطني والقومي للمسيحية العربية، واكد التزامها بقضية الخلاص الفلسطيني التي قادها وضحى من اجلها، منذ عقد السبعينات، المطران المناضل هيلاريون كبوشي، وسار عليها من بعده المطران عطا الله حنا وآخرون كثيرون•
ليست الكنيسة العربية في حاجة الى شهادة او اشادة، فهي معروفة بمواقفها التاريخية المشرفة منذ الايام الاولى للفتح الاسلامي، وهي منخرطة حالياً، على اعلى المستويات، في كل قضايا العروبة ونضالاتها، وهي متمسكة، الى ابعد حد، بهويتها المشرقية وترابها الوطني في سائر ارجاء العالم العربي، ولعل في مواقف البابا شنودة، فارس الكنيسة القبطية المصرية خير شاهد ودليل•
وليست المسيحية العربية، هي الاخرى، في حاجة الى تزكية وتمجيد وتجميل، فهي شامخة في الماضي والحاضر بكفاحها السياسي، وعطائها الثقافي، ودورها النهضوي الكبير•• وهي متألقة باسماء كوكبة من القادة والاعلام والمناضلين الشجعان منذ بدايات القرن الماضي، وابرزهم مكرم عبيد، واميل الغوري، وجورج حبش، ويعقوب زيادين، وميشيل عفلق، وطارق عزيز، وميشيل عون، واميل لحود، وجورج اسحق، ونجاح واكيم•
ومن المؤكد ان الذاكرة العربية لم تنس، ولن تنسى، كيف هب \\\"المجاهدون المسيحيون\\\" من طراز المطران كبوشي وحبش ووديع حداد وناجي علوش وكمال ناصر وجورج حاوي الى مقارعة العدو الصهيوني خلال عقدي السبعينات والثمانينات، فيما اندفع \\\"المجاهدون المتأسلمون\\\" الى خوض \\\"حرب مقدسة\\\" في افغانستان، ضد الاتحاد السوفياتي، صديق العرب وحليفهم الاول، وتحت راية ورعاية المخابرات المركزية الامريكية التي لم تترك مصيبة الا وانزلتها بالعرب والمسلمين•
طبعاً، لا تخلو المسيحية العربية من العملاء والمأجورين والمتعصبين، ومن المتنكرين للعروبة والمنادين بالتغريب والتحطيب في حبال امريكا واوروبا، غير ان هذه القلة من المنحرفين ليست ذات قيمة او تأثير، وليست بعيدة عن مثيلات لها في اوساط المسلمين، وليست محسوبة على مسيحيتها، بل على بيئاتها الذاتية وارتباطاتها الخارجية ومرجعياتها الحزبية والسياسية التي تربت في دهاليز الامبريالية والفرنكفونية•
ولعل ابرز مهمات الاكثرية الاسلامية في الوطن العربي، وواجباتها الحالية والمستقبلية هي الحفاظ على افضل العلائق مع الاشقاء المسيحيين، والحرص على ادامة المودة والوئام والعيش المشترك معهم، والتمسك ببقائهم في ديارهم واوطانهم والحيلولة دون هجرتهم واغترابهم، والبعد - كل البعد - عن اثارة النعرات الدينية والطائفية والعصبوية التي من شأنها المباعدة بين المسلم والمسيحي، والمساهمة في تفتيت الاقطار والمجتمعات العربية، والوقوع بالتالي في شراك المؤامرات الصهيونية والاستعمارية المعروفة جيداً•
ليس في مصلحة الاكثرية المسلمة بناء دول دينية تؤدي للمباعدة بين مكوناتها الشعبية، وترنو الى الوراء وزمن السلف القديم، بدل الدول المدنية التي تعتمد المواطنة والعدالة والمساواة والعلمانية، وتحدّق في عين المستقبل والزمن الآتي•• وليس في مصلحة هذه الاكثرية المسلمة مغادرة المسيحيين للديار العربية، وخلوها من هذا المكون الاساسي الذي نشأ فيها منذ آلاف السنين، وشكل على الدوام رافعة تحضر وتقدم وتنوير واستنهاض لعموم البلاد والعباد•
ولعل من الغريب بل المعيب، ان تسمح دول مسيحية عديدة في قارات اوروبا وامريكا الشمالية والجنوبية باستقبال ملايين العرب المسلمين على اراضيها، وبمنحهم جنسياتها وكامل خدماتها، في حين تضيق بعض الاقطار العربية ذرعاً بابنائها المسيحيين الراسخين في تاريخ هذه المنطقة، وتضيّق عليهم الخناق، فيما يحاول بعض السفهاء والتفهاء اعتبارهم \\\"اهل ذمة\\\"، ومعاملتهم كرعايا او مواطنين من الدرجة الثانية•
وعليه•• شكراً جزيلاً للبطريرك المبجل بشارة الراعي الذي جهر بالصدق في زمن الباطل، وقال كلمة حق عند ساركوزي المتصهين، واعاد للكنيسة المارونية كامل البهاء والصفاء والانتماء الذي شوهه البطريرك السابق، وانحاز لقوى المقاومة والممانعة والصمود حين دافع بشجاعة وشرف عن شرعية سلاح حزب الله، ومشروع الاصلاح السياسي الذي تباشره القيادة السورية•



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات