في غياب المرجعية القيادية العربية


رغم ان العالم العربي يمر الآن باضعف حالاته، ويحتاج اكثر من اي وقت مضى الى التضامن والتكاتف والفاعلية القومية والاستراتيجية الجماعية، الا انه يرزح - بكل اسف - تحت وطأة اشد انواع الفرقة والتناحر والانقسام الافقي والعمودي، ويفتقر بشكل تام الى القدرة على اجتراح صيغ التوافق والتفاهم والانسجام. فقد غابت عن امتنا المرجعية القيادية القوية، وتعطلت آليات التضامن العربي ونواظم العمل القومي المشترك، ومواسم مؤتمرات القمة، وحيثيات التفاهم والتحاور والتشاور، ولو ضمن سياسة الحد الادنى، وتحت ضغط المحاذير والمخاطر والضرورات. لاول مرة منذ خمسينات القرن الماضي، تغيب المرجعية المركزية عن الصف العربي، ويتوارى كبار الزعماء من ساحة العمل المشترك، وتنطوي صفحات التنافس القيادي التقليدي بين القاهرة وبغداد، وتتداعى اركان رافعة الصمود واضلاع مثلثها المصري - السوري - السعودي، ويتنطع لزعامة هذه الامة بعض نواطير الدويلات الوهمية والمجهرية. اختفى - او يكاد - مصطلح الامة، ومفهوم العروبة، ونداء الوحدة او الاتحاد او التكامل او التنسيق او حتى المجاملات الشكلية بين الحكام، واللياقات الدبلوماسية بين اقطارهم المأزومة التي انكفأ بعضها على نفسه، فيما اتجه البعض الآخر الى عوالم المؤامرات والمغامرات والتحطيب في حبال القوى الكبرى. انظروا شرقاً وغرباً في خارطة الوطن العربي، وتأملوا كيف تحول هذا الحمى الى ساحة مستباحة ومفعمة بالخلافات والانقسامات، ليس فيما بين الانظمة فحسب، بل بين الانظمة وشعوبها ايضاً، وحتى فيما بين الشعب الواحد ذاته، حيث تتعدد الرؤى وتتضارب الاجتهادات وتتعاكس المسارات، ويتقهقر العقل الجماعي والقواسم المشتركة. انها حالة شاذة وغير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر.. حالة مزرية من الفوضى والضياع والانحطاط والدونية السياسية التي لم تجندل فضيلة التضامن العربي لحساب الفراغ العدمي القاتل فحسب، بل ايضاً لحساب فعل التواطؤ، وقوة التآمر، وخطيئة الاستقواء بالمستعمر الاجنبي على الشقيق العربي، وجرائم التورط في تشجيع وتمويل الانقسامات والمواجهات الجغرافية والديموغرافية داخل الاقطار العربية، وفقاً للحزازات الطائفية والعشائرية والجهوية والعرقية. انظروا ما اشد احقاد الحكام العرب على بعضهم بعضاً، وما افدح خلافاتهم ومنافساتهم وحساسياتهم، وما اسود قلوبهم ونفوسهم ودخائلهم، وما اقبح قبلاتهم وحفلات تبويس اللحى امام عدسات التلفزيون فيما هم يخبئون الخناجر المسنونة خلف ظهورهم، وتحت عباءاتهم المذهبة والمقصبة، استعداداً لغرسها في صدر اي واحد منهم تصيبه مصيبة، او تنتابه حالة ضعف، او تدور عليه الدوائر. انظروا ما اقل وفاقهم واتفاقهم، وما اندر مشاعر الاخاء والوفاء في صدورهم، وما ابعد المسافات بين اقوالهم وافعالهم.. فهم في واقع الامر كذبة وجهلة وقتلة وخونة لا يحفظون عهداً ولا ذمة، وهم فاسدون ومستبدون واقرب الى اصحاب المزارع وشيوخ القبائل، منهم الى قادة الدول ورجال السياسة ورموز الاوطان وفرسان المشاريع التنموية والتحررية. ولعل من ابرز فضائل الثورات الشعبية التي اسقطت حتى الآن حكام مصر وتونس وليبيا، انها قد فضحت هؤلاء الحكام الاصنام، وعرتهم حتى من ورقة التوت، واثبتت انهم ليسوا اكثر من جهلة يدعون الحكمة، ولصوص ينتمون الى حزب علي بابا، ومتسلطين يحكمون من خارج الدستور والقانون، وعشائريين يستبيحون مقدرات الاوطان لحساب انجالهم واخوانهم ونسائهم وازلامهم. واذا كانت كل هذه البلاوي قد تكشفت لدى اولئك الحكام الثلاثة المخلوعين، فماذا يخبئ الحكام الذين مازالوا يتربعون على ارائك السلطان ؟؟ واية مخازٍ سوف تتفضح عندما تصل الثورات الشعبية الى ديناصورات النفط واصحاب خزائن قارون ؟؟ وماذا ستقول الفضائيات اياها حين يتهاوى سلاطين التخلف والامية والرجعية الذين اعتقلوا شعوبهم في اقبية العصور الوسطى ؟؟ باختصار.. لقد تعفن النظام العربي، وتخلف كثيراً عن روح العصر ومستجداته، وفقد عزيمة المبادرة والمبادأة والتغيير.. فقد لياقته القومية حين عجز عن تحقيق ادنى مستويات التضامن التي كانت سائدة منذ عدة عقود، كما فقد لياقته الوطنية حين افترق عن الشعوب، وابتعد عن ابسط حقوقها واحلامها وطموحاتها، وارتضى التذيل للقوى الكبرى مفرطاً بابسط قواعد السيادة والاستقلال. وبقدر ما هان هذا النظام الديناصوري على نفسه وشعبه، فقد هان ايضاً على العالم الذي لم يعد يقيم له اي وزن، او يعامله باقل احترام، او ينظر اليه بعين الحق والانصاف.. وها هي واشنطن التي يتمسح هذا النظام باعتابها ليل نهار، لا تتعامل معه الا من موقع العدو الضعيف الذي يتعين عليه ان يرحل، او موقع الاجير الذليل الذي يتوجب عليه ان يتكرس لخدمة مصالحها واهداف حلفائها الصهاينة. لذا، ليس من قبيل المصادفة او الارتجال او الاعتباط، ان تندلع كل هذه الثورات والانتفاضات الشعبية العربية لاقتلاع هذا النظام المتهالك، وان تطالب جهاراً نهاراً باسقاطه بعد ان بات عبئاً عليها وحتى على نفسه، وان تنجح في اطاحة بعض رموزه وتدوس صورهم وتماثيلهم بموفور الحقد والاحذية، وان تتطلع الى غد مشرق وواعد بالحرية والكرامة والصحوة النهضوية والعدالة الاجتماعية. بعد اليوم، لا بقاء لحكام ينتمون الى اهل الكهف، ويعملون من خارج الزمن، ويسيرون بعكس اتجاه التاريخ، فحتى الشعوب العربية التي لم تنتفض بعد سوف تنطلق قريباً وبمجرد توفر الشروط اللازمة ونضج الظروف الموضوعية، فهي شعوب شجاعة لا تشتريها الرشاوي والاكراميات، ولا تعاني من تقاعس عن التضحية، او نقص في الرغبة والارادة والتوق الى الحرية والانعتاق، بل تعاني من ضعف في البنى الاجتماعية والسياسية، ومن تعسف مؤقت في معادلات القوى وآليات التعبئة والتهيئة والجاهزية. غير معقول ان يظل العالم العربي هائماً في حالة انعدام الوزن، ومرتهناً لحفنة من طويلي العمر وقصيري النظر، ومهدداً في وجوده المعنوي وامنه الوطني وهويته العربية، ومرشحاً للمزيد من التشرذم والتفكك والانقسام وسط كيانات تركية وايرانية واسرائيلية قوية، ومغترباً عن اصله وجذوره ونبضه الوحدوي، ومحروماً من وجود المرجعية القيادية القومية التي طالما ألفت بين القلوب، وجمعت بين الفرقاء، وتدخلت لنبذ الخلافات وتوحيد الصفوف والاهداف.. فهل يطول هذا الوضع المزري واللامعقول، ام ان مرحلة تاريخية جديدة توشك ان تنطلق من وسط ركامه ؟؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات