غزة وتلك الباقة


صوب عينيه الصغيرتين ذات اللون العسلي اتجاه تلك الصور التي أعملت الخراب في ذكريات غرقت في أعماق سنين طويلة ،ورغم طول السنوات فهو لم ينس ...
أعملت الخراب فلم يعد يدري أيحزن على بياراتهم وكرومهم أم يحزن على من دفنوا وما زالوا يدفنون تحتها ...
كانوا في الماضي عندما يرون أرضهم المقدسة يشتمون رائحة التراب المبلل بخيرات السماء، أما ألان فلا يشتمون إلا رائحة الموت المبلل بالدم والعذاب والقهر والتشرد....
- قصف؟
- مذبحة، والظاهر إنها ستنافس مذبحة دير ياسين.
- على مر العصور استرجاع الأوطان استحق الكثير من التضحيات الدموية ، وتلك الأرض المقدسة تستحق الأكثر .
ومع ذلك الخبر( وصل عدد الشهداء 155 ) عاد بعينيه لتلك الصور; لتنبش من جديد ، لم يوار الحبات المالحة المتدحرجة بصعوبة لوقوف انحناءات وجهه في طريقها ، لم يوارها كما اعتدنا عليه كلما بكى .... وكأن الصور المكفنة بالأحمر أعطته ترخيصا بجواز البكاء للرجال.
" أحزنه على بياراته وكرومه أم على من دفن تحتها ؟"
من بعيد بعيد رأيتها تلوح بيدها ، تلوح منادية " وطني.. وطني.. وطني حدق أنا هنا ... أتذكر من أنا " بل وتهتف باسم الوطن ... ما زالت بيدها، وإنا أراقبها يمينا وشمالا بحركة رتيبة لم أمل ولم اتعب، أراقب الأبيض والأحمر والأخضر... فإذا بها باقة ورد طالما رأيتها في أحلام اليقظة ،وهل أجمل من أن يغدو الحلم حقيقة ، بل حقيقة نامت في أحضان الورد وتلفعت بروائح وكأنها منبعثة من الديار المقدسة ،روائح تبشرنا أن الوطن ما زال مفتوح الأبواب ، وتلك المواطنة التي ما زالت تلوح من بعيد عادت راجية " وطني تلك الهوية التي صنعت من حجارتك واسمي كتب فيها بعتاقتك، وطني كيف لي أن أمزقها ؟ هل رأيت من قبل حجر وعتاقة يمزقان ؟.. لم انس أذنها ، وكيف لي أن أنسى ذاك الشئ الذي اقتحمها ولم ادر ما هو ، كيف لي أن أنسى من حرمها من تراتيل الوطن، تراتيل ألقيت على مسامعها أياما كثيرة ولم نكن نعلم أكانت سدادة ام قطعة قطن جملتها الريح من خضار الوطن الممتد..
وقفت خلف الجدار"السياج" شامخة كما عهدناها ، ذات ابتسامة رائعة ،ملوحة لتستنهض،منادية لتذكر ، تنظر نظرة حانية ، وكأنها أرادت أن توصل للعالم خبر عودتها بمصاحبة تلك الأخبار التي تكفنت بالأحمر ، فعودتها وتلك الصور تخبرنا حقيقة خالدة خلود حقيقة الموت ،حقيقة وان غفلنا عنها فهي مرصودة في قلوبنا ،متبخترة في دمائنا " الإنسانية الحقيقية لن تكون إلا بين حجارة الوطن وعتاقته"..
" عزة بلد العزة ..عزة بلد العزة " هتافات أفقت عليها على غير العادة ، فقد اعتدت أن أصحو على "احن إلى أمي وقهوة أمي ولمسة أمي " ولم تحدث عندي شيئا جديدا تلك الهتافات فكانت أخر ما سمعه جل العالم قبل نومهم الليلة الفائتة ذاك عدا عن إنها ميتة لا حياة فيها ، فقد انتفخ بطن غزة منها فهي مثل البروتين الزائد ، لا فائدة فيه ولا يستطيع الجسم التخلص منه ...
-" لا شك انه ما من واحد يقطن غزة إلا ويشتاق إلى خبز أمه وقهوة أمه ولا شك تلك المواطنة الملوحة من بعيد تشتاق هي الأخرى بل هي أكثر من يشتاق"...
ما كانت غريبة تلك الهتافات ، إنما الغريب إصراره على ملاحقة الصور المكفنة بالأحمر طوال ليلة عصيبة باردة.
- الم تتعب عيناك؟
- الم تقولي أن الوطن المقدس استحق على مر العصور التضحيات الدموية، أفلا يستحق مني سهر ليلة وتعب عيني ودحرجة دمعة؟؟؟؟؟
- بلى يستحق ، بل والله يستحق ان تقف تلك المواطنة ملوحة بيدها إلى أن تدخل فتوصد أبواب الوطن خلفها فلا يسمح للغرباء بالدخول..
تدخل فتنظر الى امها تصنع لها خبزا من سنابل الوطن وقهوة من مائه ، فتخرج الحقيقة التي نامت داخلنا " لا انسانية حقيقة بين حجارة الوطن وعتاقته".
- بكيت أكثر مما بكيت طوال عمرك .
- لقد وصل عددهم 380 شهيدا وودت أن أودع كل منهم بدمعة.
- اتبكي حزنا عليهم ام على بياراتك وكرومك .
- بل عليهم فالوطن المقدس سيعود بوعد من السماء سيعود، بكرومه وبياراته سيعود وهم و المكفن بالاحمر لن يعود .

hani_shalan@maktoob.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات