صرخة حق ضائع


جلست أنظر إليهم من بعيد ، نسمات الهواء الحار تعبث بخصلات شعرهم المتلبّد ، وبقايا ثياب لا تكاد تستر جسدهم الهزيل ، نظراتهم تتراقص وتعلق بأي شيء تراه ، كأنّ أحداقهم مشدودة إلى حبل واحد ، طفولة عارمة يصخب بها المكان . البراءة التي انغمست بها وأنا أراقبهم براءة من نوع جديد ليست كتلك البراءة التي تعودت أن أراها في وجه طفل يلفّه غطاء حريري أو تطعمه خادمة بملعقة من ذهب . براءة يشوبها شيء قبيح ، يلوّنها حزن غريب ، وجوع مرير مطحونة برحى الحرمان ، مكبوتة بآهات القهر ودموع مظلوم لا حيلة له سوى البكاء والهروب . وجوه صفراء لا كتلك الوجوه الورديّة ، شفاه بيضاء متشقّقة لم يليّنها يوم مذاق حلو أو حتى حامض ، عيون غائرة في الجفون من شدّة الهزال ، تغطيها سحابة سوداء طالما حجبت السّعادة والهناء . ما بال تلك الصّبية يلعبون ! أتستطيع أجساد كعيدان القصب الحركة ؟ أيهنأ لتلك العيون المتعبة إطالة النّظر لما حولها من بؤس . أم أنّهم لا ينظرون لها بعين السّخط كما أنظر إليها أنا ؟ أم أنّهم اعتادوا على تلك المناظر حتى أضحت بالنسبة إليهم أجمل من مشهد الألعاب النّاريّة التي يراقبها الأطفال على أساطيح القصور المرصّعة بالجواهر .
ألا يرى هؤلاء البؤساء الضباب الذي أراه أنا ؟ وكيف يرونه ! ولم يروا غيره ؟ كيف يشعرون بالظلام ، ولم يلامس النور بياض عيونهم الصغيرة .

آهٍ يا سماء كم تضمّين بين ذراعيك من تناقضات . أيعقل أن يجمع غطاؤك الأزرق الجميل كلّ هذه الأشواك بين ثناياه إلى جانب تلك الزهور الجميلة والحدائق الغنّاء ؟ كيف يستر ثوبك الفضفاض كلّ تلك العيوب ، كيف يرضى أن يلد أطفالاً يعلم ما ينتظرهم من خوف وهلع .

هل تجمع الخريطة كلّ هذه المدن ؟ وكيف تستوي بنفس الحدود ، ولا يدري حدّها الأيمن عن حدّها الأيسر ؟
هل يعقل أن تنتظم خرزات عقد في نفس الخيط ولا يرتطم أحدها بالآخر .

آهٍ يا غربة الزمان على من ألقي اللوم ؟ على الخريطة أم على السماء ، على الغني أم على الفقراء ، أين نحن من هذه العتمة وهذا الشّقاء ؟ أكتب الله دوام الليل على هذه الأرض ولنا على النهار دوام البقاء ؟
ما بال الشمس نسيت هذه البقعة وكأنّ الله أمرها ألّا تشرق فوق هؤلاء الغرباء .

من لكم يا أحباب الله ، من حرمكم من أبسط حق لكم . من منعكم عن النور ورماكم بالعراء ؟

يالسخرية الأقدار ، نلهو كلّ يوم بكلّ ما وجد للّذّة والمتعة ، نسهر ونمرح ، نلعب ونفرح ، نأكل ونشرب ، ناسين أو متناسين أنّ كلّ لقمة تدخل جوفنا ملطّخة بالعار ، مسروقة من فم صبية صغار ، لم نلتفت إليهم يوماً وكأنّنا لا نعلم أنّهم أناس بنفس المدينة ، أو حتى بنفس الحيّ ، بل جيران لنا بنفس الشارع ، وقد يكونون من أعراقنا .

آهٍ منك يا قدميّ اللعينتين ، لماذا سقتماني لهذا الشارع المظلم ؟ لماذا جعلتماني أمضي كلّ تلك الساعات حتى أصل لهذا المكان الذي أمضيت حياتي بعيدا عنه ؟
ياإلهي الساعة ما تزال الواحدة بعد الظهر ، ولم يمض على خروجي من منزلي نصف ساعة .
ولكن لماذا أشعر بكلّ هذا الزمان . لا بد أنّ الاختلاف العظيم بين هؤلاء وتلك الطبقة التي خرجت من عندها جعلني أشعر بكل هذا الزمان الوهميّ ، وكيف لا وكأنّ الزمن يدور عندنا وتوقف عندهم بعد أن طحنت عجلته كل أسباب الهناء والسرور .

لا يا قدميّ لستما لعينتين . بل اللعنة على ذلك السكوت ، اللعنة على الحيّ الميت ، اللعنة على كل متغافل عن حقّ هؤلاء ، ولا بد أنّ غيرهم كثير . على بعد نصف ساعة من منزلي يخيّم كلّ هذا الضباب ، كيف بمن لا أستطيع الوصول إليهم ؟ لابد أن الضباب والسواد أضحيا طعامهم وشرابهم صحوهم ونومهم فرحهم وترحهم .

كيف نعيش نهتف بحقوق الطفل وننادي بسعادته ونعقد المؤتمرات لتفنيد البنود ، ونصرّح بأنّهم أكبادنا التي تمشي على الأرض ، وبأنّهم زينة الحياة الدنيا وهم في ذات الوقت منغمسون في بحر الظلم والحرمان .
محرومون من حقهم في الحياة ، حقهم في التعليم ، حقهم في المسكن والملبس ، في المشرب والمأكل .

أين تلك الحقوق ؟ أهي شعارات نزيّن بها الكتب ؟ أم رسوم نلوّن بها لوحات المعارض ؟ أم أقنعة نغطّي بها وجه الحقيقة ؟

طالما سمعنا ونسمع هذه العبارة المزيّفة الجميلة ( حقوق الطفل ) كلمتان متلاصقتان لفظاً ، متباعدتان واقغاً وحقيقة .

أيعقل أن تكون هناك كل تلك الحقوق ، وفي الوقت نفسه أرى هذا المشهد البشع أمامي
حقيقة مرّة مؤلمة مضحكة . غريب أن يكون الألم مضحكاً . والمرار رمزاً من رموز السخرية .
حق الحياة والطفل يقتل كل يوم في الحروب السياسية التي لم يفهم منها يوما سوى الموت
حق الملبس والطفل شبه عار ، حق المشرب والطفل شفتاه تنزفان دماً من كثرة الجفاف ، حق المأكل والطفل تتصارع أحشاؤه جوعاً حتى أكاد أسمع صوت معدته وهي تتلوى بانتظار من يقدّم لها لقمة طعام .
أيّ حق هذاوهو محروم من أبسط مقومات الحياة . هذه هي السخرية التي أتحدث عنها . أليست كل تلك الأشياء أسبابا للبكاء والضحك معاً ؟

ما بالك يا مسكين تمشي مسافات طويلة قد نملّ بالسيارة قطعها ، تبيع الحلوى لا أسمع كلمة شكوى واحدة منك ، أتحبّ هذاالعمل ؟‍ ‍‍‍‍أتجده سبباً للسعادة تحت أشعة شمس من شدتها كأنّها التصقت بجسدك حتى صبغته بهذا اللون القرمزيّ الغامق . أم أنك مضطر للسكوت في زمن لا تجدي به الشكوى سوى المزيد من الجوع والقهر والألم .

وأنت يا صغيرتي ، تبدو ملامحك المخبّأة وراء العناء والجوع جميلة جدا خلقت على طبيعتها الرائعة حتى ما لبثت يشوهها قبح اليتم وذلّ الأسى . قد تكونين أكثر جمالاً من تلك الفتاة التي تتناقلها الأيدي في حيّنا تزهو بفستانها الثمين وشعرها الذي لمّعته أغلى أنواع المنظّفات والملوّنات .

من لكم يا مساكين ؟ أقسم لأكوننّ صرختكم التي كتمتموها سنين ، ودموعكم التي أخفتها حبّات المطر ، لسانكم الذي أخرسه الجوع ، فرحكم الذي قتله الحزن وداسته أقدام الأيام .

أقسم لأعلنها صرخة في وجوه الملايين الذين يكنزون في معاطفهم الصوفيّة الملايين ، صرخة في وجه من ينادي بحقوقكم ولم يحققها لكم .
أقسم لأكون أول صوت ينطلق من بينكم ولم يصدر عنكم . انتظروني ولابد أن أعود ، أعود وبيدي مرهم شفائكم من حرقة الشمس
وبلساني صوت الحق ، وبعينيّ صورة الحياة الجديدة ، وبدمي شريان الحقوق والحقيقة .

انتظروني سأعود لأمسح عن وجوهكم البريئة دموعكم التي لم أرها على وجنتيكم ولكن شعرت بها تسيل في قلوبكم الحزينة . انتظروني سأعود لابد أن أعود فلن تبقى هذه هي الطفولة ولن يظل هذا هو الطفل . حتى وإن تحقّق الحلم في الجيل الجديد .



تعليقات القراء

أردوغااااان
ما أجمل أن تنثرين عبقك الإنساني المورق إبداعاً و عاطفة على حشاشات الفؤاد، على زغب الحواصل، على الجياع المحرومين !!!!

تصوير جميل، عاطفة صادقة راقية، تعابير جذابة

أبدعتِ.
20-07-2011 09:06 AM
هبة الغزاوي
لم أستمتع بقراءة مقال مثل هذا

أرجو أن أرى اسمك دائما على صفحة المقالات

أهنيك على الأسلوب المتميز و الفكرة المطروحة
22-07-2011 06:51 PM
حسين
أسلوب متميز و صور فنية تمس الروح قبل القلب

تهانينا رباب
22-07-2011 06:52 PM
معجب
أتمنى أن أستمتع بمقالات أخرى بنفس هذا الأسلوب عافاك
23-07-2011 10:03 AM
زهرة البنفسج
مللنا من السياسة و الأخبار المعادة



اخيرا موضوع يلامس شغاف القلب

لا روتين الساحة السياسية الممل
23-07-2011 10:05 AM
مناصر
أقسم لم أقرأ بعمري كلاما يصور الطفولة في الوطن العربي بهذه الصورة الصحيحة و التصوير الفني الدقيق كما قرأت بهذا المقال

24-07-2011 10:37 AM
محمد
جميل
25-07-2011 10:18 AM
بيان
( تصدقوا و لو بشق تمرة )

إلى من تذهب الصدقات ؟ ؟ ؟ ؟

ألا يستحق هؤلاء البؤساء الصدقة ؟ ؟ ؟ ؟ ؟

28-07-2011 10:30 AM
معلق
اكثر ما لفت انتباهي الارتباط بين الموضوع و عنوان المقال
لا مثل الكثير من المقالات التي نقراها
تجد العنوان بواد
و النص بواد آخر بعيد عنه
اختيار مناسب و تصوير فني مؤثر
عافاك رباب الخطيب
03-08-2011 09:30 AM
مواطنة
قصة مؤثرة

أبكتني
05-08-2011 10:40 AM
حازم المغا ربة
والله حلو يا ستنا

يصح لسانك

بدنا كتاب هيك فصحى سليمة و لغة فن و ادب عنصح

عافاك

اتركي رقم تلفونك نتعرف لو سمحت

و منكم نستقيد خيّا
15-10-2011 08:58 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات