امرأة مختلفة


قالت لي صديقتي: \"يجب أن تلتقي بها، ستعجبك وستنسجمين في الحديث معها\".
سألتها بحماسة: \"ماذا تعمل؟\".
أجابتني وأكمام ابتسامة تتفتح على قسمات وجهها المشع صدقا: \"مهندسة معمارية، إلا أنها تتقن هندسة الحديث والحياة والفرح وكل شيء\".
مرت الساعات ببطء وأنا ممدة على عقارب الزمن في انتظار لحظة اللقاء، ترددت كثيرا في اختيار كلماتي التي سأعرف بها عن نفسي، ووقفت أمام خزانة الملابس مدة طويلة وبدلت الكثير من القطع قبل أن أستقر على قطعة تناسب حدث الالتقاء بها، فكرت مليا في المواضيع التي ربما نطرحها على طاولة الحديث، ارتبكت لأنني غير ملمة بتفاصيل كافية حول الهندسة المعمارية، وزحفت الدقائق متوترة صاخبة في فكري المنقوع بدهشة اللقاء.
بهرتني هيبة حضورها من قبل أن تتفوّه بكلمة، وأربكني جمالا غامضا كموج البحر يعلو موجه هائجا صاخبا تارة، ويسكن بين يدي هدوء وديع تارة أخرى، حاولت أن أتذكر بعض الجمل الافتتاحية التي أحضرتها في حقيبة الذاكرة إلا أنني أضعتها في زحام الارتباك، فاكتفيت بابتسامة من القلب وكلمات ترحيب تقليدية مقتضبة.
بدأت هي الحديث...
وراحت الكلمات تنساب من فمها عطرا شذيا وندى عذبا عطّر أجواء اللقاء، وفي غضون لحظات شعرت وكأنني أعرفها منذ الأزل، فقد أزاحت بتلقائية حديثها وعفوية أدائها وصدق مشاعرها المطلة من نوافذ عينيها المشعتين جرأة وحيوية كل حواجز التكليف، لم تكن الكلمات تخرج من بين شفتيها إنما تتحرر مع كل حركات جسدها، تتشكل على مقاس قسمات وجهها المريحة، وتفر من نظراتها المتقدة شغفا ودفئا، وتقفز من بين أصابع يدها الملوّحة في السماء، أدهشتني امرأة تتحدث بكل تفاصيل جسدها بدون رعونة أو نزق.
تحدثت عن كل شيء وعن أي شيء، أخذتني من يدي وصعدت بي على قمم سياسية بعيدة، وراحت تبحث وتحلل وتنكش وتبرر وتعلل وتفسر، علاقات دولية ومواقف أنظمة عربية وتركية وإيرانية وأوروبية وأمريكية، وقضايا اجتماعية وأزمات اقتصادية وأوضاع مادية، تحدثت عن الطفولة والمراهقة وأساليب التربية، عرّجت على الفقر والتسول والأمية والبطالة، خاضت في التاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء، وأنا كالطفل المأخوذ بمصباح علاء الدين وحجم الديناصور وانعدام وزن رواد الفضاء على سطح القمر!
لم تكن مملة لأنها لا تخض في التفاصيل إلا إذا طلبت أنت منها ذلك، ولم تكن استعراضية أو متعالية بأي شكل من الأشكال لأنها تحاورك وتسمعك وتطلب منك أن تبدي رأيك، ليست متحجرة الفكر لأنها تمنحك الوقت لإقناعها بوجهة نظرك وتناقشك بهدوء ومنطق، تمزق ببساطتها أقنعة التكلف واحدا تلو الآخر، وتدهشك قدرتها على الوقوف على الخط الفاصل بين الجرأة والوقاحة، تشعر بوجودك معها بعظمتك لا بعظمتها؛ لأنها تتعمد أن تتواضع كالعمالقة العظماء حتى تتركك تفكر بعظمتها ما أن تغادر المكان.
سألتها عن نفسها فأجابت: \"أدير شركة للاستشارات الهندسية، وأدرس علوم إدارية، وعضوة في الهيئة الإدارية لحزب الغد، وأعد حاليا دراسة مسحية عن جيوب الفقر، وأربي طفلي يزن وحنين، كما وأعتني بوالدي المقعد، وأقوم بواجباتي الزوجية والأسرية وكذلك الاجتماعية، لي عدد كبير جدا من المعارف وبعض الأصدقاء، أحب ممارسة الرياضة والمطالعة\".
سألتها ويد الدهشة تغرس أظافرها في عيني: \"كيف؟\"
أجابت ويد المرح تداعب صوتها: \"شيء من الإدارة وكثير من الإرادة\".
رجوتها أن تسهب في شرحها ففعلت: \"أحب التسوق إلا أنني لا أتسكع في الأسواق، أعشق الأناقة إلا أنني لا أبالغ في إضاعة الوقت والمال، أحب قضاء الوقت برفقة طفلي وأكره بعثرة الساعات في صالونات الثرثرة والنميمة النسائية، أجتهد في عملي وأمضي ليال كاملة وأنا أخطط المشاريع إلا أنني أكافئ نفسي بإجازات قصيرة بين الحين والآخر، أقسم الأيام بين العمل العام وبين واجباتي كابنة وكزوجة وكأم، أفكر وأعمل وأخطط وأنجز، أضع الأهداف وأحدد آليات العمل ولا أتواني عن التنفيذ والاجتهاد، لا أكف عن التفكير ولا أخجل من تعديل مخططاتي بناء على المعطيات والأولويات\".
أزعجتني الصورة الضبابية المشوشة التي كونتها عنها: \"لا أفهمك، تبدين متناقضة!\".
صوبت نظراتها نحو عيني الاستياء المستلقي على جبين حيرتي: \"وهل نحن سوى خليط من المتناقضات المتوازنة وأخرى متكاملة؟\".
وتابعت: \"لماذا تشعرين بسعادة غامرة عندما يستيقظ طفلك من نومه وكذلك لحظة نومه بين يديك؟ ولماذا تستقبلين ضيفك بالسعادة ذاتها التي تودعينه بها؟ تحبين طفلك وترغبين في قضاء الوقت معه إلا أنك تودين أيضا الاستمتاع ببعض الوقت بمفرك، تتحمسين للزائر وتمضي معه أوقاتا ممتعة إلا أنك تشعرين بالراحة عند انتهاء الزيارة، هل تعدين نفسك متناقضة؟\".
شجعها صمتي على الاستمرار: \"أحتاج لأن أكون محبوبة من قبل أسرتي ومن هم حولي حتى أتمكن من مواصلة عملي وعطائي، ومن الضروري أن أغمر الآخرين باهتمامي ورعايتي حتى تزهر بساتين حبهم لي وتعاطفهم معي، لا يمكن أن أثابر في عملي وضميري يؤنبني بسبب تقصيري مع زوجي أو أبنائي، كما لا يمكنني أن أمد لهم يد العون والمعرفة وأنا متقوقعة في أحشاء المطبخ أو تحت ملاءة الكسل والخمول، جميعها مكونات تتكامل لتشكل دورة الحياة\".
سألتها بلهفة طفلة ترغب بالإيقاع بمعلمتها: \"ألا تشعرين بالتعب والإنهاك؟\".
أجابت بمهارة طالب متفوق يجيد توقع الأسئلة: \"بالطبع أشعر بالتعب والإنهاك، بل أحيانا أنفجر بالبكاء وأصرخ أمام المرآة، كثيرة هي الأوقات التي أشعر فيها باليأس والمرارة والخذلان، فتتوقف عجلتي عن الدوران وأستسلم لمشاعر الإحباط إلا أن شيئا ما يدفعني إلى مواصلة التحدي من جديد\".
شعرت بأنني تلميذة نجيبة ترغب باقتناص فرصة قلما تتكرر، فسألتها: \"ما هو سر نجاحك؟\".
أجابت بضحكة علّقتها على أطراف كلماتها الهادئة وهي تقترب برأسها باتجاهي: \"الصدق في النوايا، الإيمان بإمكانية تحقيق الأهداف، الاستمتاع بالإنجاز، أحبي نفسك وأحبي من حولك وأحبي الحياة، كوني مرنة في خياراتك وقراراتك، تطلعي إلى الأفضل والأسمى ولا تنشدي الكمال، وانبذي سفاسف الأمور وترفعي عن التوافه وارتقي بفكرك ومشاعرك وراقبي سلوكاتك\".
سألتها مرة أخرى: \"كيف؟\".
أجابت بحزم: \"انظري إلى نفسك في المرآة كل يوم، عليك أن تريها كما هي حقيقية ومجردة بنواقصها ومثالبها، عارية من الزيف والنفاق ومساحيق التجميل والكذب الاجتماعي، ثم أغمضي عينيك واحلمي وشاهدي نفسك بالصورة والثوب والموقف الذي ترغبين به، وانطلقي بعد ذلك لتحقيق الصورة الحلم وأنت مدركة وواعية للفرق بين الصورتين وللمسافة بينهما\".
بعد أن انتهى لقاؤنا بدأت أنا أبحث عن نفسي!



تعليقات القراء

محمد احمد البشر
هذا الابداع العبقري في الايحاءالارشادي تم فيه استخدام كل المؤثرات التي تخرج كل قوي الوجدان المحبطة والمنزوية في كهوف النفس كصليل زغرودة عربية بدوية تبعث الحماس والتحدي وتلهب المشاعر وتقدير المرأة منبع الكرامة والفاء والحنان
17-05-2012 08:55 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات