منفى إيتل عدنان


صديق يوناني، ناقد سينمائي بارز، حدّثني بحماس بالغ عن شريط سينمائي تسجيلي عنوانه "إيتل عدنان: كلمات في المنفى"، للمخرجة اليونانية فوفولا سكورا، عُرض في مهرجان سالونيكي للفيلم التسجيلي (الذي قد يكون التجمّع الدولي الأهمّ لهذا النوع من الإنتاج السينمائي)، وكذلك في مهرجان لندن للفيلم اليوناني، أواخر الشهر الماضي. وإلى أن تُتاح لي بهجة مشاهدة هذا الشريط، أنقل عن الصديق الناقد اليوناني انطباعات طيبة للغاية، لا تقتصر على السويّة السينمائية وحدها، بل تمتدّ إلى ما تقوله الشاعرة عن معاني المنفى ومستويات النفي، في أشكال التجربة الإبداعية (الشعر والرواية والتشكيل)؛ وفي الترحال وارتياد الجغرافيات (من لبنان إلى فرنسا وأمريكا وإسبانيا وهولندا واليونان وإيطاليا، فضلاً عن سورية والأردن والمغرب وتونس...)؛ وفي اللغات المتعددة (العربية، الفرنسية، الإنكليزية، اليونانية والتركية).
ولعلّ هذا المزيج لن يبدو حصيلة عجيبة إذا أعاد المرء قراءة شهادة بعنوان "أن نكتب بلغة أجنبية"، مطوّلة ومعمّقة واعترافية وشهيرة تماماً عند متابعي أعمال الشاعرة، تصف فيها عدنان تاريخ تجاربها الشخصية مع اللغات والمنافي. وهي تروي كيف كانت لكلّ لغة تكويناتها الوجدانية والشعورية الخاصّة: اليونانية والتركية، عن طريق الأمّ المسيحية المولودة في سميرنا، أو إزمير المعاصرة؛ الفرنسية، في مدرسة خاصة تابعة لأحد الأديرة الكاثوليكية في بيروت؛ العربية، عن طريق الأب، السوري المسلم الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني؛ والإنكليزية، في الجامعة والمغترب الأمريكي.
آثار تلك "المطحنة اللغوية"، إذا جاز القول، تبدّت بجلاء في ما أنجزت عدنان بعدئذ من شعر ونثر، وعن هذا تقول ببساطة مذهلة: "كان الفنّ التجريدي هو معادل التعبير الشعري عندي. لم أكن بحاجة إلى استخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط. لم أكن بحاجة إلى الإنتماء إلى ثقافة ذات توجّه لغوي، بل إلى شكل مفتوح في التعبير". ولديّ، شخصياً، ما يكفي من الدلائل "البصرية" و"التصويرية" و"التعبيرية"، وسواها من المصطلحات المعتمدة في قراءة اللوحة والعمل التشكيلي إجمالاً، لكي أصدّق ما تقوله عن شكل التعبير المفتوح ذاك، وعن لغة قصيدتها الخاصّة والمفتوحة بدورها.

ومنذ القصيدة الطويلة "كتاب البحر"، والتي كتبتها في سنّ العشرين (هي اليوم تقارب الـ 83 سنة، بقلب شابّ أبداً!)، انهمكت عدنان في تلمّس ذلك القاموس التعبيري الفريد الذي سوف نعرفها عن طريقه، وفي تطوير طاقاته التصويرية ـ التشكيلية بصفة خاصّة، وتأثيث عوالمه ومناخاته وموضوعاته، قصيدة بعد أخرى. و"كتاب البحر"، القصيدة المكتوبة أصلاً باللغة الفرنسية، تحاول وضع العلاقات التبادلية بين البحر والشمس في إطار من التعايش الإيروسي الأكواني، ولكنها جوهرياً ترسم مشهداً تشكيلياً حاشداً في الأساس، ينقلب فيه لقاء البحر والشمس إلى انفجار بصري مذهل لعناصر الطبيعة المحسوسة والمتخيّلة، للعالم المادّي والمجازي، وللمعنى الآخر الأعظم وراء انحسار الحدود بين الشيء وكناياته، والكنايات ذاتها إذّ تدخل في استعارات مفتوحة.

غير أنّ عدنان لا تستطيع الإنفكاك عن حقيقة اللغة الأمّ وحقوقها، وربما حقوق كلّ اللغات: أليس من المحزن، تقول الشاعرة، أنّ "كتاب البحر" قصيدة تعزّ على الترجمة إلى اللغة العربية، لا لشيء إلا لأنّ "البحر" اسم مؤنّث في الفرنسية ومذكّر في العربية، الأمر الذي ينسف البُعد الإيروسي الأهمّ في القصيدة، بل ويلغي معادلاتها الكبرى؟ هذه، بالطبع، بعض أكلاف العيش في ما نسمّيه عادة "منفى اللغة". وعلى نحو يذكّر بعبارة إدوارد سعيد، أنّ المنفى عنده صار حقلاً كريماً، تعتبر عدنان أنّ منفاها "يعود إلى حقبة سابقة بعيدة، ويمتدّ زمناً طال كثيراً، حتى صار طبيعتي الخاصة. الشاعر، في نهاية المطاف، طبيعة إنسانية على النحو الأصفى، ولهذا فإنّ الشاعر إنساني كما القطة قطة، وشجرة الكرز شجرة كرز".

غير أنّ حال النفي هذه هي، أيضاً، بعض السبب في أن عدنان تبدو وتظلّ مظلومة كلما تعيّن توزيع شهادات "الريادة" على "الروّاد". إنها تكتب الشعر الرفيع منذ أكثر من نصف قرن، وهي ليست غائبة عن المشهد الشعري العربي إذْ واصلت الحضور ـ على طريقتها، بالفرنسية أوّلاً ثمّ بالإنكليزية ـ وساهمت في إطلاق صوت خاصّ لعلّ أثره يتخفّى طيّ العديد من التجارب العربية الناضجة المعاصرة، عند الشعراء والشاعرات على حدّ سواء. وبعض عزاء عدنان يأتي من حقيقة أنّها ليست مجهولة لدى القارئ العربي، بل أزعم أنها معروفة على نحو يحسدها عليه الكثيرون ممّن يكتبون مثلها بلغات أوروبية. عشرات من قصائدها تُرجمت إلى العربية، على يد شعراء وكتّاب متمرسين من أمثال سركون بولص وفايز ملص وخالد النجار وميْ مظفر وسواهم، نُشرت في مجموعات مستقلة، أو منفردة في دوريات أدبية بارزة، وأثّرت وما تزال في تكوين الذائقة الشعرية العربية المعاصرة.

وبالطبع، كانت البهجة ستتضاعف لو أنّ شريطاً عربياً سبق الشريط التسجيلي الذي أنجزته اليونانية فوفولا سكورا، لكي لا يذهب المرء بعيداً في الآمال المثالية فيتخيّل الدكتورة حنان قصاب حسن، الأمينة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، وقد انتبهت إلى شاعرة كبيرة... سورية المحتد، لمَن ينسى أو يتناسى!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات