الديموقراطية بين الأساس السياسي والأساس الاقتصادي


على الرغم من وضوح المبادئ العامة للديموقراطية والتي تركز على الانتخابات والتمثيل وحكم الأغلبية والحرية والفردية والانفتاح الاقتصادي، وضمن الضوابط القانونية فإنه في الواقع العملي وبخاصة في دول العالم الثالث التي تتلمس طريقها نحو الديمووقراطية بحذر، لا يوجد مفهوم واضح ومحدد لكافة فئات المجتمع بالنسبة لحدود الديموقراطية وأولوياتها، وبحيث أنه يوجد لكل فئة من فئات المجتمع تفسيرها وفهمها الخاص للديموقراطية وحسب وضعها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
فالرأسمالية الوطنية على سبيل المثال عادة ما تطالب وتركز على تلك الجوانب من الديموقراطية التي تنسجم مع مصالحها وتوجهاتها وتعطيها الأولوية الاولى. والتي تشمل الحرية الفردية وحرية رأس المال في التراكم والحركة والاستثمار والاستهلاك بكافة أبعاده ومفاهيمه.في حين إن الفئات الكادحة والمحدودة الدخل لا تهتم كثيراً بالبعد السياسي للديموقراطية بقدر ما تهتم بالأثر الاقتصادي والاجتماعي لها، والذي يتمثل في التوزيع العادل للدخل والعدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص والعمل والتعليم والصحة وهذه لا تتحقق عادة إلا إذا تدخلت الدولة تدخلاً مباشراً لمصلحة هذه الفئات أو إذا مكنتهم الدولة من أن يخلقوا لهم نفوذاً سياسياً مؤثراً من خلال فرز ممثلين حقيقيين لهم في مؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها مجلس الأمة.
إن هذه الظروف التي ذكرتها والتي توفر الحياة الآمنة والكريمة لفئات الشعب المحدودة الدخل لا يمكن أن تتحقق كما هو معروف ما لم يتحقق الشرط الأول، والذي لا يثير اهتمام هذه الفئات وهو الديموقراطية ببعدها السياسي، والذي يحفز لديهم الطموح للمشاركة السياسية الفعالة وتنظيم أنفسهم بطريقة تكفل لهم تلك المشاركة الفعالة إلا إن ذلك لا يزال متعذراً بسبب ظروفهم المادية الصعبة وأولوياتهم التي تركز على توفير الأساسيات لهم، وتخلي الدولة عن مسئولياتها السابقة في توفير الامن الاجتماعي وحمايتهم مما يقلل من قدراتهم التنافسية في السوق السياسي الفاعل.
كذلك فإن تركيز فئات معينة من المجتمع وفي مقدمتها أصحاب رأس المال وأرباب العمل والفئات الغنية على الديموقراطية بمظهرها السياسي المجرد ومظهرها الاقتصادي الذي يتركز حول الفرد ورأس المال فقط دون الانتباه إلى ذلك المظهر الاقتصادي للديموقراطية الذي يتمحور حول العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع لا بد وأن يؤدي إلى حالة من التوتر الاقتصادي والذي يهدد في نهاية المطاف الديموقراطية بمظهرها السياسي ويلحق أفدح الأضرار بالبعد الاقتصادي ذاته والذي تتبناه الطبقه الراسماليه الوطنيه ، وذلك لأن الاقتصاد لا ينمو ورأس المال لا يتراكم ولا تتحقق الأرباح ما لم يكن هناك مجتمع تتوفر له الاساسيات ويتمتع بدخل معقول يمكنه من شراء واستهلاك المنتجات والسلع التي تنتجها الرأسمالية الصناعية أو التجارية.
كذلك فإن التركيز فقط على الديموقراطية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي بدعوى تحقيق الإنصاف للفئات الكادحة والمحدودة الدخل على حساب الميل على الديموقراطية بمفهومها السياسي، أي أن يتم مصادرة جزء من حرياتهم مقابل توفير نصيب اقتصادي معين لهم، وكما كانت تفعل العديد من الانظمه العربيه في فترات سابقة عندما كانت تعطي الأفضلية للأساس الاقتصادي للديموقراطية على حساب الأساس السياسي والدستوري، إن هذا الأسلوب يعد خطأ لا يقل أهمية عن الخطأ السابق الذي يقدم الأساس السياسي للديموقراطية على حساب الأساس الاقتصادي لها.
إن ما نراه حالياً ومع تضاؤل دور القطاع العام هو حالة يتم فيها تهميش الجانب السياسي للديموقراطية لقطاعات واسعة من الشعب بسبب تدني وضعهم الاقتصادي ومحدودية دخلهم وإمكاناتهم وبالتالي شعورهم أنهم لا حول ولا قوة لهم في إحداث أي أثر سياسي لصالحهم الأمر الذي يدفعهم إلى العزلة والاغتراب وهذه العزلة والاغتراب لا يمكن التنبؤ بنتائجها السياسيه والاجتماعيه والامنيه الراهنة والمستقبلية.
إن هذا التهميش السياسي لهذه الفئات المهمشه أو انقلاب مع دفوعهم لتمثيلهم في السلطه التشريعيه على مصالحهم لدى وصولهم إلى أهدافهم، قد أدى إلى حدوث خلل كبير، وهذا الخلل أدى بدوره إلى تضخم الأدوار والنفوذ السياسي والاقتصادي للفيئه الراسماليه المهيمنه ، كونها تملك رأس المال والنفوذ والقدرة على تفتيت وتجزيئة وتهميش الفاعلية السياسية للفئات المحدودة الدخل وهذا النفوذ السياسي في الواقع لا يتناسب مطلقا مع الحجم الصغير لهذه الشريحة المتنفذة ولا شك أن هذا التضخم السياسي لهذه الفيئه سيزيد من مشاكل القطاعات الشعبية المهمشة والمهشمه ، وهذا وضع لا يتناسب مطلقا مع شكل ومضمون الديموقراطية التي تستند على حكم الأغلبية العدديه وليس على عظم القدرات الاقتصادية.
إن ما هو مطلوب حالياً أن يتم إعادة تنظيم جذري لأولويات الدولة بحيث يتم التركيز على القطاعات الواسعة من المجتمع المحدود الدخل والفقيرة ، لأنها العمود الفقري للأجهزة الإدارية والأمنية للدولة الاردنيه كما أنها في النهاية المنشط والمستهلك الرئيس في دورة الاقتصاد الداخلي لإحداث تغييرات جوهرية لمصلحتهم تكفل تحقيق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئات وتفعيل دورها السياسي الذي تم تهميشه أو فبركته لفترات طويلة من الوقت ، ليتناسب مع حجم هذه الفئات وقدراتها ودورها، وهذه المهمة ليست مهمة سهلة لأنها تستلزم وضع الخطط والبرامج والتشريعات التي تكفل التوزيع العادل للدخل والضريبة ومكتسبات التنمية، وهذه الإجراءات تعد ضرورية لحماية الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدولة الاردنيه على المدى المتوسط والبعيد
هناك خياران لا ثالث لهما وهما: أن تبقى الدولة تضع يدها على معظم الموارد وتحتكر الوظيفة وتصبح رب العمل الأساس وبالتالي فإن النجاح يحسب لها والأخطاء تحسب عليها ، أو أن تتحرك لتأسيس وتفعيل منظمات المجتمع المدني للدولة الاردنيه لتأخذ دورها في المشاركة في التخطيط والتنفيذ والإشراف ، وبالتالي أن تتحملهيئات هذه المنظمات مسئولياتها كاملة تجاه المواطنين الذين انتخبوها ووثقوا فيها، وعندها فإذا ما أصابت فيحسب ذلك لها وإذا ما أخطأت تقوم منظمات المجتمع المدني بحجب الثقة عن هؤلاء ، وبالتالي تبقى الدولة إطاراً يحترمه الجميع، وهذا يتطلب توفر الشفافية الكاملة والتي أكد عليها جلالة الملك ما بين الحكومة والشعب ،وان يتم وضع قوانين تمكن من الرقابه والشفافية بحيث لا يبقى أمرها مرهوناً بالمزاج الشخصي للمسؤول، إن مبدأ العقاب والثواب يتطلب شفافية كاملة يطل منها الشعب وصحافته على عمل كافة الأجهزة التنفيذية والتشريعية، وهذا لن يتم إلا في حالة توفر قانون مطبوعات ونشر عصري يوفر الشفافية في المعلومات وسن قانون الكسب غير المشروع ووضعه موضع التنفيذ ، والذي يوفر الشفافية التي تمنع وتحاصر الفساد والمفسدين الذي يلحقون أفدح الأضرار بأمننا الاقتصادي وبنائنا الاجتماعي المتماسك.

Suleiman.nusairat@yahoo.com



تعليقات القراء

سليم ابو محفوظ
الخ الاستاذ سليمان نصيرات أشكر لك جهدك المبارك الذي يثري المفهوم الفكري للقارئ
المتبصر على الأوضاع التي لا تكون فيها الامور تسير بمسارها الحقيقي...

واشكرك كذلك على تحليلاتك المنطقية وانت الكاتب التبحر في الا عماق ...وقد أصبت الهدف ولكن لا حياة لمن تنادي فالمطالبة شيئ والواقع أشياء أخري...

وكما كتبت بأن السياسيون نسبتهم قليلة جدا في مجلس النواب السادس عشر كما كان في السابق ولهذا الاساس سيبقى الاداء النيابي ضعيف في وطننا ما دام السياسيون بعيدين عن هذا الموقع
ويعود ذلك كما قلت لعد م توفر المادة لهم وهي عصب العملية الانتخابية..
وشكرا لجهودك المبذولة والمفيدة
10-12-2010 02:44 PM
سليم ابو محفوظ
الخ الاستاذ سليمان نصيرات أشكر لك جهدك المبارك الذي يثري المفهوم الفكري للقارئ
المتبصر على الأوضاع التي لا تكون فيها الامور تسير بمسارها الحقيقي...

واشكرك كذلك على تحليلاتك المنطقية وانت الكاتب التبحر في الا عماق ...وقد أصبت الهدف ولكن لا حياة لمن تنادي فالمطالبة شيئ والواقع أشياء أخري...

وكما كتبت بأن السياسيون نسبتهم قليلة جدا في مجلس النواب السادس عشر كما كان في السابق ولهذا الاساس سيبقى الاداء النيابي ضعيف في وطننا ما دام السياسيون بعيدين عن هذا الموقع
ويعود ذلك كما قلت لعد م توفر المادة لهم وهي عصب العملية الانتخابية..
وشكرا لجهودك المبذولة والمفيدة
10-12-2010 02:44 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات