فـي رحيل الاحبة .. وقسوة الفراق


تضيق علينا الدنيا، كلما افتقدنا صديقا عزيزاً ولا ندرك حجم حضور احبائنا في حياتنا حتى نفقدهم فجأة، فندرك حجم الفراغ الذي يتركونه وراءهم، انني ممن يقدمون الصداقة على القرابة، لأن الصداقة خيار اصحابها وخير الصداقة صداقة القريب اذا صحت، اما القرابة فليست ضمانة لصداقة او مودة دائمة.

صديقك من قد تختلف معه ولا يفقد مودته في قلبك وتجد له العذر حتى لو اخطأ، واذا ضاقت عليك الدنيا، يسري عنك لقاؤه ويريحك ان تسر اليه، ومع ان الاصدقاء عملة نادرة، الا أن وجودهم يبدد وحشة الدنيا، فسماع صوت صديق ولو عن بعد، قد يبدد الوحشة في قلبك، وكثيرون من ذوي القربى، تتجاور واياهم في شجرة العائلة، وقد لا يقترب قلبك من كثيرين منهم، اما الصديق الحقيقي فنبت جذره في قلبك، عندما تفقده تحس بالنزيف في اعمق اعماقك ويعتصرك الالم كلما مر بذاكرتك، والدنيا صيرورة وذاكرة طويلة متراكمة تنتهي بلحظة واحدة معاشة، ما مر قبلها بعيد، صعب المنال عليك مرة اخرى وما قد يأتي بعدها قريب منك، ولكنه ما زال مجهولاً وغريباً عليك.

فاجأنا الموت بخطف صديق امضينا واياه سحابة العمر، من بواكير الطفولة، وميعة الصبا، واشتداد العود، وتطاول العمر، كانت لنا واياه رفقة في الحياة موصولة، ومجبولة بالفرح والامل والحزن وقسوة الحياة، ورفقة في القربى ورفقة في الصداقة والسفر، ورفقة في المعشر.

رجل من عامة الناس، مفعم بمحبة الحياة والناس، اعطى اسرته واهل بيته وارحامه ومن والاه أو رافقه في الدرب اكثر مما اعطوه، وتلقى السهام وما اكثرها بصبر واناة، وصدراً اوسع مما وسعت صدور من حوله مجتمعين، فاذا اختلف الناس من حوله، كان ساعي خير ووفاق حتى وان تلقى الملامة، واذا احتاجه أحد بذل ما في وسعه، لخدمتهم وان اختلف الناس في امر هو طرف فيه اخذ باليسر ولم يعسر وتحمل.

رجل حاضر دائماً، كأنه صلة الوصل لمن هم حوله، يمرُ ويـُمَرّر من خلاله الكثير مما يخص شؤونهم.

راودته احلام الموت وهو في نهايات السبعينات من العمر، وهو في كامل صحته ولم يكن يشكو الا من ألم عارض في عصب القدم، وحسده الكثيرون على تماسك صحته واناقة ملبسه وحضوره الدائم في المناسبات العامة وهو في هذه السن، حتى قيل ان عين الحسد قد طالته.

تعبَّـد في سنواته الاخيرة، حتى لم تفته صلاة جامعة في المسجد، وكثرت هواجسه حول الموت، حتى أسَـرَّ الى احد ابنائه فاعطاه مبلغاً من المال وأوصاه ان يدفع منه كامل تكاليف جنازته عند الموت، وحدد له اين يدفن، واختار ان يدفن في مكان قريب حتى لا يسبب المشقة للناس.

ثم عرض على زوجته ان يضع لها مبلغا من المال في حسابها حتى لا تحتاج احداً، ولكنها عارضته وكتب لها ورقة وصية بذلك.

هيأ نفسه للحظة الموت، وهو بكامل صحته وذات صباح خرج خلسة وصلى الفجر جماعة في المسجد القريب من بيته ثم قاد سيارته مسرعاً باتجاه حمامات ماعين بعد صلاة الفجر، فأوقفته دورية للشرطة ونبهته الى خطورة الطريق، وما ان وصل حتى ترك سيارته دون ان يقفلها وهرول مسرعاً الى بركة الاستشفاء بالماء الحار، ودلف اليها وحيداً، وقد خلت من الناس وما ان دلى رجليه التي كان يعاني من وجع خفيف في مفاصلها في الماء الحار حتى ألهبت الحرارة جسده، وغامت على صدره ونفسه رائحة الكبريت والبخار المتصاعد من الماء الذي يقارب درجة الغليان، وما هي الا دقائق حتى ارتفع ضغطه وانفجر شريان في دماغه، سال دماً من انفه وفمه بحسب الاطباء ففقد التوازن وسقط في الماء واغمي عليه، وصعدت روحه من ثنايا الماء الحار دون ان يكون حوله احد، لا أحد من زوار المكان ولا احد من العاملين في مسبح الاستشفاء في ماعين ولا احد من موظفي الفندق، ولا رقابة صحية مسبقة ولا احد ينقذه من الماء الملتهب عندما سقط فيه، ولا احد يعرف كم امضى في الماء الحارق.. أهكذا يعامل كبار السن في مرافقنا الصحية في ماعين، لا يرافقهم ولا يوجههم ولا يراقبهم احد.

أي اخانا وصديقنا الراحل، كأن القدر كان ينذرك ويهيئك لتستعد للحظة الموت ثم يناديك ويستحثك حتى لا يفوتك قطار الرحيل، فتذهب اليه خلسة دون ان يعرف احد من اهل بيتك، مسرعاً مهرولاً تاركاً وراءك كل ما عشت من اجله لا تلوي على شيء، ولتترك لنا حزنا بحجم الفراغ الذي تركه رحيلك المفاجئ.

سبحان من انذر نبيّه المصطفى انك لميت وانهم لميتون وان الموت حق، تلك هي الحقيقة الثابتة في الدنيا، فالموت بوابة الاخرة ومنه اليقين بأن الموت لا يرتبط بعمر ولا مرض، ولا سلم ولا حرب ولا يحدده الا القضاء الرباني والقدر وان الامر مرتبط بارادة الله اولاً وآخراً فاذا انتهى اجلهم لا يستقدمون ولا يستأخرون، وداعاً ابا فيصل سيبقى فراقك كما هو حال فراق جميع الاحباء على احبائهم، جمرة في القلب، تكوي كلما ذكرناك، او مررنا بما يذكرنا بك، وستسكن في حزننا طويلاً وسنغسلك بدموع الشوق والمحبة، مرات ومرات.. عزاؤنا انك تصالحت مع الموت كما تصالحت مع الحياة، وعرفت طريق التوبة، وانك كنت صديقا سهلاً قريباً واسع الصدر مع ربعك واصدقائك.

اراد الله ان تصعد روحك من ثنايا الماء الحار، وانت في ذمة الله بعد صلاة الفجر جماعة ولا نملك الا ان نقول سبحان من وهب وسبحان من استرد ما وهب، وسبحان من قضى فيما ملك، فكل نفس مردها الى الله، يرعاها بلطفه وغفرانه ورحمته وهو ارحم الراحمين.



تعليقات القراء

خلدون المجالي / المدينه الرياضيه
رحم الله فقيدنا المرحوم مدالله المجالي واسكنه فسيح جنانه واحسن عزاء اهله والهمهم الصبر والسلوان
كان لي شرف معرفة الفقيد منذ قرابة العام والنصف والحق يقال بان ميمنة الصف الاول في المسجد تفتقده وتفتقد الرجال امثاله لان الله تعالى يقول ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) والمرحوم ابو فيصل ولا نزكيه على الله ونحسبه من الصالحين المصلحين الضاربين اروع الامثله على صفاء الداخل واناقة الخارج والتعلق بالله تعالى , وحين الولوج للمسجد نقول رحمة اللع عليك يا اخو خظره , اسأل الله العظيم ان يسامحك ويرحمك ويتجاوز عن خطاياك وان يجزيك الخير والفلاح انه سميع مجيب
01-12-2008 09:10 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات