أوكرانيا تعود إلى طريق الانقسام والاضطراب


جراسا -

في أوكرانيا، جرت نهاية الأسبوع الماضي انتخابات رؤساء بلديات وأعضاء مجالس المدن والمقاطعات والأقاليم، حيث تعرض حزب الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، لخسارة مدوية.

مني حزب "خادم الشعب" الحاكم، الذي يرأسه رئيس الجمهورية بهزيمة ساحقة في هذه الانتخابات، إذ لم يتأهل مرشحو الحزب حتى للجولة الثانية من انتخابات رئاسة البلديات أو المجالس التشريعية المحلية، حيث يحتل الحزب أيضا المرتبة الثالثة أو ما دونها.

تصدرت نتائج الانتخابات في المجالس المحلية الجماعات والأحزاب الأوليغارشية المحلية التي يترأسها رؤساء البلديات، ثم جاء في المركز الثاني حزب "المنصة المعارضة – في سبيل الحياة" و"التضامن الأوروبي" الذي يترأسه رئيس الجمهورية السابق، بيوتر بوروشينكو. في الوقت نفسه، ربما كانت المفاجأة، والعنصر الرئيسي في هذه الانتخابات هو تجدد الانقسامات على أسس جغرافية في أوكرانيا. ففي غرب البلاد صوت الأوكرانيون لصالح "التضامن الأوروبي"، الذي استوعب القوى القومية والموالية للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، بينما صوت المواطنون في شرق وجنوب أوكرانيا لصالح "المنصة المعارضة"، التي تتبنى منهج استعادة العلاقات مع روسيا.

قبل انقلاب عام 2014، الذي استولى بموجبه القوميون على السلطة في البلاد، دائما ما كان الانقسام هو السمة المزمنة في جميع الانتخابات الأوكرانية، حيث كانت الأجزاء الموالية للغرب، والموالية لروسيا متساوية تقريبا، وهو ما أدى إلى مسار سياسي يدور دوما في حلقة مفرغة. فعادة، وبعد وصول القوميين إلى السلطة، تحاول الحكومة الجديدة قطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، ما يؤدي إلى ركود في الاقتصاد، وتدهور في مستوى المعيشة في البلاد. في الانتخابات التالية، يصوت السكان الساخطون على القوميين لصالح الحزب الموالي لروسيا، فيحدث بعض الانتعاش الاقتصادي، يليه احتجاجات وانقلابات مدعومة من الغرب، فيعود القوميون المؤيدون للغرب إلى السلطة، ليقطعوا العلاقات مع روسيا مجددا، فينخفض مستوى المعيشة، وهكذا دواليك.

ولكن، بعد أحداث عام 2014، انفصل جزء من الأراضي الموالية لروسيا عن أوكرانيا، ما أدى إلى تحول كبير في ميزان القوى السياسية لصالح القوى المؤيدة للغرب والقوميين، فانتخب القومي بوروشينكو رئيسا للجمهورية، والذي ظل وفيا لمخططه القديم، وتوجه بالفعل لقطع العلاقات مع روسيا، ما أدى إلى وقوع كارثة اقتصادية في البلاد.

أتاح ذلك الفرصة في الانتخابات الرئاسية عام 2019، لانتخاب الفنان الكوميدي، فلاديمير زيلينسكي، الذي لم يظهر في البداية توجهات قومية متطرفة، بل إنه يفضل التحدث باللغة الروسية، وجعل الشعار الرئيسي لحملته مكافحة الفساد، وبذلك حصل على دعم الجنوب والشرق الناطقين بالروسية. في الوقت نفسه، وعد الأوكرانيين بمسار نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومزايا أخرى مرتبطة بالحياة الأوروبية الناعمة، التي طالما اجتذبت الناخبين في غرب البلاد.

ومع ذلك، ظلت المشكلة الرئيسية لأوكرانيا في أن الغرب لا يحتاج إليها كدولة صناعية، ومنافس اقتصادي، وإنما يحتاج إليها سوقاً لمبيعاته، ما يضطر أي حكومة مؤيدة لأوروبا للعودة إلى المخطط التقليدي، والحلقة المفرغة من جديد: قطع العلاقات مع روسيا، الركود الاقتصادي، خسارة شعبية السلطة. بينما يؤدي استمرار قمع المعارضة، وتحويل الدراسة في "المدارس الروسية" من اللغة الروسية إلى الأوكرانية، وانتهاك حقوق الناطقين باللغة الروسية، وقطع العلاقات مع روسيا، إلى استياء الجنوب والشرق. كذلك فإن الناخبين الغربيين غير راضين عن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.

بهذه الطريقة، عادت أوكرانيا إلى حلقتها المفرغة القديمة في تغيير السلطة، والتي، وعلى الرغم من عدم جدواها في المضي قدما نحو أي شكل لاستقرار سياسي أو سياسة مستقرة، إلا أنها كانت تسهم بشكل ما في تبريد مشاعر العداء بين المعسكرين المتعارضين، عن طريق التناوب على تغيير الوجوه في السلطة،وبالتالي لم تسمح بانقسام البلاد.

لكن هذه الحلقة المفرغة لم تعد تعمل كما كانت تعمل في الماضي، على الأقل ليس على المدى القصير، حيث انفصل جزء كبير من الأوكرانيين الناطقين بالروسية عن البلاد في شبه جزيرة القرم وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، فلم تعد بقية السكان الناطقين بالروسية كافية لتغيير سياسة أوكرانيا في السنوات القليلة القادمة.

يعني ذلك أن السياسة المدمرة لقطع العلاقات مع روسيا، والركود الاقتصادي، سيذهبان إلى أبعد مما كانا عليه في الدورات السابقة. وبالمثل، فإن استياء المناطق الناطقة بالروسية في جنوب وشرق أوكرانيا سوف يطال حدودا أبعد كثيرا من السابق. إن أوكرانيا تشبه لبنان، فهي محكوم عليها عمليا بإعادة الإنتاج الذاتي لنفس النموذج السياسي، وهو طريق حتمي نحو الأزمة الاقتصادية والسياسية الحادة ثم التمرد والثورة.

فأوكرانيا، في نهاية المطاف، هي دولة مصطنعة، لم تتشكل من خلال عملية استمرت لقرون، وإنما نشأت بالصدفة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما أصبحت الحدود الداخلية، التي لم يكن لها أهمية في يوم من الأيام، حدودا دولية. ومعظم أراضي أوكرانيا هي الأراضي التي ضمها إليها بسخاء القياصرة، وبعدهم البلاشفة الروس. ولسوء الحظ، لم يكن الشعب الأوكراني أبدا أمة قادرة على أن تشكل أمة موحّدة، ولا يمتلك المهارة أو العقلية التي تؤهله لإنشاء دولة متعددة الأعراق، من أجل سياسة سلمية مع الأقليات القومية. فبعد حصولهم على دولتهم، احتفظ الأوكرانيون بعقلية الأقلية القومية، وبدأوا على الفور في قمع الروس والأقليات القومية الأخرى، وهو ما أدى إلى تحفيز الانفصال، ومن ثم انفصال عدد من المناطق الناطقة بالروسية.

في ضوء ما سبق، أعتقد أن أوكرانيا لم تقطع شوطا طويلا حتى الآن للحصول على نموذج مستقر للدولة، ولا يزال أمامها أكثر من ثورة وانقسام إقليمي آخر. قد يكون محتملا أن تظل داخل حدودها الحالية، إذا ما توحدت مع روسيا في شكل من أشكال الاتحاد، ولكن طالما كان الغرب قويا في تدخلاته في الشأن الداخلي الأوكراني، فمن غير المرجح حدوث ذلك. حتى الآن، يبدو المسار الاستراتيجي لأوكرانيا هو التحول النهائي إلى دولة فاشلة، مع مزيد من التفكك المحتمل.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات