أبداً ما قَصَّرت ..


"حقكم علينا على أي تقصير صدر منا"، بهذه العبارة المغرقة في البساطة لَوَّح د. عمر الرزاز بيده مودعاً مواطنيه بعد قرابة ثمانية عشر شهراً من الخدمة كرئيس للوزراء، كانت فترة عصيبة عليه وعلى المواطنين وعلى الدولة بأكملها، بدأها في حزيران 2018 عندما وضعته الظروف في مقدمة المشهد خلفاً للدكتور هاني الملقي الذي اسقطت حكومته الجماهير الغاضبة على خلفية اقرار قانون ضريبة الدخل سيء السمعة والصيت، لينتقل الهادئ الدمث ابن منيف وشقيق مؤنس خريج هارفارد، من أروقة وزارة التربية والتعليم حيث حقق حضوراً لافتاً كوزير استطاع الإقتراب من عقول وأفئدة الطلبة وأهاليهم، إلى مقر الرئاسة في الدوار الرابع، ليواجه تحديات ومشاكل مزمنة عصية على الحل حتى لمن امتلك حزمة من العصي السحرية أو طقماً من مصابيح علاء الدين، كانت البداية من التشكيلة الوزارية التي استنفذ في تأليفها وقتاً قياسياً، أثار الدهشة والاستغراب، لتأتي التركيبة على خلاف التوقعات التي خلقتها المشاورات المتعددة والوقت الطويل التي استغرقتها عملية التشكيل، وليصاب محبوه بصدمة وخيبة أمل، تكررتا مع التعديلات الوزارية المتتالية التي حاول الرئيس فيها جاهداً استبدال خيارات رأها الشارع كما النخب غير مناسبة ولا ترتقي إلى مستوى التحديات الهائلة التي يواجهها الوطن.

لم يكن الرزاز محظوظاً أبداً خلال فترة توليه المسؤولية، فإضافة إلى المشكل الإقتصادي شديد الصعوبة انفجرت في وجهه ألغام وقنابل ذات ارتدادات وتوابع شديدة، بدأت بكارثة البحر الميت مروراً بأزمة المعلمين ثم جائحة كورونا فأزمة المعلمين مجدداً، حاول الرئيس وطاقمه الوزاري إطفاء الحرائق التي أشعلتها هذه الأزمات، إلا أن الظروف القاسية التي واكبت هذه الحقبة وعدم كفاءة الكثير من الحلول والمعالجات، أبقت الأوضاع وخاصة الإقتصادية منها ضمن دائرة التأزم المستمر والاستعصاء، حيث استمرت معدلات الفقر والبطالة في الارتفاع واستمر منحنى المديونية في الصعود، إلا أن الحكومة قد نجحت في امتصاص حنق وغضب الشارع أثر نجاحها في كبح جماح فيروس كورونا خلال الأشهر الاربعة التي اعقبت انفجار الجائحة، وكادت الحكومة ورئيسها أن يحققا نصراً مؤزراً على مستوى المنطقة والعالم في هذا المجال، لولا التراخي الذي حصل في ضبط الحدود والذي أدى إلى تفشي الوباء في طول البلاد وعرضها.

صحيح أن مغادرة الرزاز قد جاءت نتيجة استحقاق دستوري ملزم لم يكن بالمكان تجاهله إو تفاديه، ولكن الصحيح أيضاً أن الحكومة ورئيسها لم يعد لديهم ما يقدمونه من حلول إثر تفاقم الاوضاع الصحية والإقتصادية نتيجة فقدان السيطرة على الوباء، فجاء التغيير الوزاري تنفيذا للإستحقاق الدستوري ومحاولة لتغيير اللاعبين وربما تعديل خطة اللعب لقلب النتيجة أو تقليل الخسائر ما أمكن.

إن تقييم "حقبة الرزاز" يجب أن لا يتم بمعزل عن فهم وإدراك طبيعة الظروف الصعبة التي واكبت توليه المسؤولية، وحجم الصلاحيات الفعلية التي تمتع بها الرئيس، كما يجب أن لا يتم إلا ضمن سياق تقييم شامل لمن تولوا زمام المسؤولية خلال السنوات العشر الأخيرة.

أما عن حكاية "التقصير" الذي أشار إليها الرزاز في جملته الوداعية، فقد بذل الرجل قصارى جهده لتحقيق الأفضل للوطن والمواطن خلال تلك الفترة، كما كان نظيف اليد دمثاً عف اللسان مترفعاً عن الصغائر، لم يلقي بالاً لحملات النقد التي وصلت في كثير من الحالات الى الردح والتعريض بشخص الرئيس، لم يحاول الدفاع عن نفسه ولا حتى مجرد الرد، معبراً بذلك عن مستوى رفيع من الرقي وسمو الأخلاق، أما عن تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين، فهذه نتاج سنوات طويلة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة، التي نتحمل جميعاً المسؤولية المباشرة عنها، حكومات سابقة ومجالس نواب ومؤسسات مختلفة وحتى مواطنين عاديين، ففي الوقت الذي تحقق مختلف البلدان والشعوب حول العالم قفزات واختراقات في مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، ما زلنا عاجزين عن وقف تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، فسيل الفقر والبطالة الجارف يداهم اعدادا متزايدة من الأسر، والخدمات المتعلقة بالصحة والتعليم والمواصلات وغيرها تراوح مكانها إن لم تكن تتراجع، خيبات متتالية لا حلول لها إلا بتغيير شامل لا يقتصر على استبدال زيد بعمر ويتسع ليشمل كافة الهياكل والبنى التي ما زالت تعمل بنفس الفلسفة والوتيرة طيلة عشرات السنين دون جدوى، مع تغيير مجمل الثقافات والممارسات السائدة وصولاً إلى التنمية الحقيقية للإنسان والموارد، وبغير ذلك سنبقى جميعاً "مقصرين" بحق انفسنا وبحق هذا الوطن.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات