نقشٌ على جدارِ القَلب


كانت السَّاعةُ تُشيرُ إلى حوالي الواحدة بعد مُنتصف الّليل ، وحرارةُ الّليل تلفحُ جسده الغارِقَ في زوايا الهواءِ الباردِ النَّافذ من شُقوقِ غرفته الصَّغيرة ؛ يأخذهُ الهدوء المُلقى على كتفيه كالحَمَلِ الوديع ، وتُذيبُ أشلاءَ قلمِهِ الكلماتُ المُتكسَّرةُ ، التي تَتفلَتُ من بين أنامله كفقاعاتٍ شاردةٍ من كأسِ المَوت ، وأمواجُ الدَّهشةِ والخُذلانِ تُسافِرُ مع تمتماتِ عُيونه ، التي صَفَعها سَوادُ ذلك الليل النَّائم فيه ؛ فَجـأةً ينهضُ مُنهكَ القِوى ، ثقيلَ الخُطوات ، كأنما اطبَقت عليه الجبال ، وبدأت تلتهمُ قدميه حِرابٌ كَأسرابِ النَّملِ المقهور ، ولم يُكمِلُ خطوتين وهو يُردد في ذاته "لم يبقَ عندي ما يبتزُّهُ الألمُ" ، حتىَّ وجد نفسَهُ مسجَّىً على فراشه ، وقد تَغَلّغَل العدو - الذي يخشى - في أوردة الوقت ، وقَبّل أوتارَ القدمين.
حاولَ كَبْحَ جِماح نفسه التَّواقة إلى رَشفة القهوة ، ودَلَقَ في حُنجرته حَفنَة ماءٍ كان قد خبّأها في نهرِ ذاكرته ، وروحهُ يُكبّلها العَرَقُ المزدحمُ فيه ؛ وحينما أحسّ بأنه يترنَّحُ بين حبال الموت ، ومجاديف الحياة ، تناول – متردداً – هاتفه المكبوت مِن على حصيرة الغرفة ، ذلك الهاتف الذي يبتلعُ الريق تارةً ، وينزفُ الرّنين تارةً أخرى ، مرّةً ومرّةُ ومرّة ، حتى بادرهُ رفيق دربه وغربته بارتباكٍ قائلاً : "ماذا؟ .. ما بك؟ .. عسى خير" ، فاحتدم في نفسه صراعُ الصوتِ المبحوح مع روحه الصّاعدة مِن مضائق القَصَب المُرْ ، واعتلت دقّاتُ قلبه لاهثةً كأزيزِ الأنفاسِ المخنوقة.
ما بين الخوفِ والأمل ركِبَ موجته الأخيرةِ زاحفاً نحو رواق البيت حتى وصلَ ذروة الموت ، لكنه لم يَمُتُ ، فلم يزلْ في ثنايا صدره الضيِّق نفَساً يتخندَقُ ويئنُّ ؛ وعلى عجَلٍ حضر الفارسُ الأيهمُ الملثّمُ مع حمَّالة النَّعشِ الأخير فنقلوهُ إلى حيثِ الحِمام ، لكنَّهُ لا يزالُ فاغِراً روحه التي تتأهَّبُ للرجوع ، كأنَّها تأبى إلا البقاء بين خفافيشِ الوقت وأجنحة الظلام ؛ وساروا به وهو يسمَعُ لهفة وحزن صديقه ، ويعذلُ قلبه على ما تسبّب له من عناء ، ويجوبُ في بقايا داخله السَّفر على أطلال وطنٍ بعيد بعيد ، ربما شقَّ الحنينُ إليه الضّلوع ، ودفنَ قلبه المكلوم في مقبرة الأحياء ، دون إذنٍ من الأرض ولا تأشيرةٍ من سُلطانِ الهَوى ؛ واستلقى في غيبوبةٍ راحت به إلى ما وراء الحياةِ وما قبل الموت.
لَم يُفارقهُ ذلك الظلُّ المتدفِّقُ في ثناياه ، ذلك النقشُ الناصع البارع البرّاق ، الذي يحزمُ في قلبه كل معاني الأخوة والصداقة الحميمية ، لم يبتعد عنه طُرفة عينٍ ، ولم يتركه يُعاني على سرير الشفاء وحده ، بين سكين المرض ووطأة السَّاعات الثقيلة ، ذلك النّسرُ المحلّق على محطاتِ حياته كالشِّتاء الزّاخر بكل جميل ؛ وما أن شقشقت عيناه واستيقظ من غيبوبته في اليوم التالي حتى نادى عليه ، وفي عينيه عطشٌ شديدٌ للبكاء المرير ؛ نظر إليه باسماُ ملهوفاً يقتاتُ نوازل الوحدة التي بلغت قمتها فيه ، وبساتينُ الفرح الأخضر تُغازلُ جبينه قائلاً: "أخاك أخاك إنَّ من لا أخاً له .. كساعٍ إلى الهيجاء بغير سلاح" ؛ في تلك الغُرفة الفسيحة في المشفى أحسَّ بأنَّ الدُّنيا ليست سوى خبراً على شريط التلفاز المُتمترسِ على الحائط المقابل له ، وليست إلا لحظة مؤقتة تدقُّ أوتارها في جسد الساعة المعلقة ، وأنَّ الصديق لا يُعرف إلا إذا هزّت بك الأهوال والأحوال غربالها.
جلسا معاً يروي كلٌّ منهما ما حدث ، ويتبادلان الحديث المكتنزُ في خزائن القلوب البيضاء بينهما ، فضحكةٌ من هنا ومداعبة من هناك حتى قطع حديثهما صريرُ باب الغرفة ، وبرزت عيناها من نصف الباب ، وحينها استأذن منه صديقه للخُروج ، بينما هو يُومئ إليها قبل القُدوم بأن تخرج ولا تأتي إليه ؛ لم تُقصِر خطاها واستمرت بالمشي نحوه وعلى وجهها غشاوة المجاملات الهمجيّة ومسرحياتُ العشَّاق الباذخة الحضور.
جلست والقلقُ بعينيها ، تتحسّبُ آلافَ النغمات ، جلست وعيونُ القلب من عينيها كالأنياب ، تبكي وتعتذرُ كثيراً ، وتحاول فتح ملفات الحبِّ بلا أبواب ، جلست والدمع على خدّيها سيلٌ كالمطر يسيلُ بلا سرداب ؛ كل هذا وهو في صمتٍ خانق لا يكلمها ولا يردُّ عليها ، فقط يومئُ إليها بيديه بالخروج من الغرفة ؛ إلا أنّه قال لها جملة واحدة وهي تهمُّ بالمغادرة "لا أحتاج رحمة ولا عطفاً من أحد ، فرحمة ربي تكفيني .. كفى تملّقاً وكذبا .. لا أريدك هنا.".
عاتبهُ صديقهُ على ما فعلهُ ، لكنّ قلبه مقبوضٌ ممتلئٌ بالحزن والأسى والخيبات ، فمن يغرِفُ من بئارِ الدماء الملطّخة بعصيرِ النفاق ليرويك لا يُحبك ، ومن يُلبسِكَ ستارَ الخوف ليحميك لن يحميك ، ومن ينعاك وأنت حي لا يتورَّع أن يقتلك ، ومن يأمل أنَّ العُمر له وأنك مُتَّ قبله لن يعطيك الأمل ، ومن يبتلعُ حقَّك في العيشِ لا يستحق العيش معك ؛ أتخم صديقه ذو الذائقة الجميلة بكلماته ، فما استطاع سوى أن يطلب منه الإذن للمغادرة مطمئناً إيّاه بالرجوع فيما بعد ؛ وغادر صديقه وبقي في قبوه الفسيح الذي يضيقُ عليه كلما حجّت السنين الى ذاكرته ، وكلما شعر بطعنات الليالي الدَّاجية على أوراقه.
وبينما هو يقلّبُ هاتفه على السرير في المشفى ، ويستنهضُ همته ونشاطه ، يسيرُ متخفيّاً في دروب الحياة المتعبة مستطلعاً أمزجة السنين ، يمرُّ مرور العابرين على كل غيمةٍ أمطرت به أو هزّت أركان استقراره ، فَتارةً يستذكرُ بحزنٍ ووجعٍ والده الذي نطقت عيناه بوداعه دموعاً زكيّة قبل عدة شهورٍ ، وتارةً يعود إلى خُبز أمّه التي ما انفكت تحنُّ إلى رؤياه ، ويطوفُ في سنيِّ عُمرها ولمساتِ حنانها مودةً ورحمة ؛ ولكنَّ حبائلَ الشيطان كُنَّ قد أوثقنَ قيده جيداً ، فسرعانُ ما تراهُ يلوم نفسه عما سبّبهُ لعاشقته من كدرٍ وضجرٍ ، فما يلبثُ إلا ويضمّها على الهاتف بحنانٍ وطيبةٍ ، ويستنكرُ على نفسه ما أخطأه بحقها لشدَّة شعوره بها وحرصه على ألا يجرحها ولو بنظرة ، لا يدري أهو العشق الأعمى؟ أم هو التيه؟ أم أنَّ هنالك غُراباً يُحلّق بين أنغامها العذبة لم يفهم سرَّ نعيقه بعد؟ في ظل هذا التردد والشك غلّب عاطفته ، وطلبَ منها العودة لزيارته من جديد.
لم تمضِ سوى ساعة حتى كانت بجانبه ، تغسلُ جبينه بوداعةٍ ، وتُغازلُ قلبه بإطراءاتها وغنجها وكلماتها الجميلة ، وتسندُه على طرف السرير ليتناول وجبة الغداء ، تُسبّلُ عينيها وتبتسمُ ملاكاً ، وهو في داخله يشعرُ بالقلق من كل شيء ، فهو يعلمُ جيداً فنون الغرام ومستوى خصوبته وانسيابياته ، فمرةً يعتقدها تحاولُ أن تخفف عنه وطأة الحزن وتنسيه الألم ، وتارةً يعود إلى دائرة الشك والخوف مما وراء الأكمة ؛ رُغم كل ما بداخله من توجّسٍ لم يحاول نزع الفرح من قلبها ، رغم أنها اجتثّت من داخله كلّ بذرة فرح ، وأنفقت كمية الحنان والحبِّ المصطنع لتُلبسه وشاحاً آخراً لا جيوبَ فيه.
ويستمرُّ المسلسلُ في حلقاته من لحظة بدء إجراءات الخروج من المشفى حتى الوصول الى المنزل ، ولا زالت برفقته تتلوى حزناً وتتألم ، وتتمنى له الشفاء والسلامة ؛ ومنذ تلك اللحظة شعر بأنه على بداية الطريق المؤدي إلى السلامة ، ليس بما تمنته له إنما بما تحبسه في صدرها وتخفيه عيناها ، وأيقن أنّ النوم في العسل ليس إلا نوماً على أسرَّة الضياع والغفلة.
ويبقى النقشُ الجميل ، أخٌ لك لم تلدهُ أمك ..
يا أيُّها الخِـلُّ الـوفيُّ تَلطُّفــاُ .. قد كانت الألفاظُ عنك لقاصِره





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات