السلطة الرابعة ما بين الأصفاد وسياط الجلاد


يطلق مصطلح السلطة الرابعة على وسائل الإعلام عموما ( الصحافة والإذاعة والتلفزيون ) وعلى الصحافة خصوصا لما لها من دور إعلامي هام ومؤثر في توجيه وتشكيل الرأي العام ومتابعة المعلومة ومكافحة الفساد وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساهمة في التنمية وتعميق مفاهيم الولاء والانتماء للوطن وقيادته ورفع مستوى الوعي المجتمعي وخلق مناخ من الحراك السياسي وتوجيه النقد البناء لممارسات السلطتين التنفيذية والتشريعية والمشاركة في مسيرة التحديث والإصلاح وهي تختلف عن السلطات الدستورية الأخرى التنفيذية والتشريعية والقضائية وهي سلطة بمعنى قوة التأثير فقط وربما هي الأقوى والأوسع في ذلك خاصة في الغرب حيث احترام وافر وتقدير كبير للصحافة ودورها المتميز في العديد من القضايا المحلية والدولية وقد روى المؤرخ الاسكتلندي توماس كار ليل في كتابه " البطل وعبادة البطل " حادثة وهو يلتقي في البرلمان بعض أعضاء الهيئة التشريعية قال لهم ( ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف البرلمان وفي قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا ).

والرئيس الفرنسي شارل ديغول رد على برقية الممثلة بريجيث باردو ( بابا الجنرال أرجوك ابعد الصحفيين عني ) قائلا ( أعرف سيدتي انك أكثر أهمية لفرنسا من مصانع داسو ولكن نفوذي على الصحفيين لا يزيد عن نفوذك ).

ونابليون بونابرت الذي اجتاح العالم وشكل إمبراطورية فرنسية مترامية الأطراف قال ذات يوم ( إنني اخشي مقالا في صحيفة أكثر من جيش جرار ).

السلطة الرابعة هي الصحافة التي ازدهرت في حضن العالم المتقدم والتي يحسب لها ألف حساب حيث يحترم الفكر وحرية الرأي والطرح ولا تحارب الكلمة ولا الحقيقية ولا يهدد الصحفي بالحبس والملاحقة والتوقيف الإداري والفصل من العمل وهي تتمتع بقوة كبيرة تستمدها من المجتمع لأنه كلما كبرت شعبيتها كبرت قوتها وهي معرضة للرقابة الحكومية دائماً و لذلك يجب أن يكون الكاتب الصحفي على دراية عالية بالمهنة و ذو مستوى عالي في فهمه و وعيه حتى يستطيع أن يفرض على نفسه رقابة ذاتية إي يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه القانون لأن الحرية مهما أرتفع سقفها لها حدود و يجب أن نحافظ على إعلام حر نزيه وموضوعي.

الصحافة أجبرت الرئيس الأمريكي نيكسون على الاستقالة بعد كشف فضيحة ووتر غيث وساهمت في إسقاط طوني بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق وسلطت الضوء على فضائح حرب فيتنام وسجن أبو غريب وجوانتانامو ووثائق وكيليكس التي كشفت الكثير من الحقائق بعد التعمية والتضليل والتخدير الرسمي الطويل وهذه حال الصحافة عندهم.

أما عندنا فأي حاكم إداري حديث التعيين يستطيع تسطير كتاب جلب لأي كاتب أو صحفي نشر خبر أو مقال ينتقد فيه أي خلل أو إهمال أو تقصير في محيط مملكته العامرة ثم يتعامل معه بفوقية وعنجهية وإذلال وتهديد بالتوقيف ومخاطبة صاحب الجريدة أو الموقع لفصله أو تجميده أن كان موظف و حجب مقالاته ووقف نشرها أن كان حرا طليقا مع زيادة جرعة الجراءة والإساءة في هذه الحالة أو بأقل تقدير يمنع من دخول المحافظة أو المتصرفية أو مديرية الشرطة و يوجه التعامل معه بجفاء وعداء وازدراء.

وأي مسؤول لدينا تكتب صحيفة ما عن خلل يتجذر في وزارته أو دائرته يصدر فرمان سريع وعاجل بقطع العلاقات والإعلانات عنها ووقف اشتراكاتها وبعض الصحفيين يقبضون ويصبرون على عضة الجوع ويرفضون مقايضة شرف المهنة وأمانة الكلمة بأي مغريات مادية أو معنوية حتى لو أفلست وأغلقت صحفهم.

عندنا الصحفيين يساقون زمرة إلى المحاكم بحق وبدون حق ويبقى الصحفي أسير الخوف على مستقبله وحياته ومعيشته مما دفع البعض إلى ترك ( مهنة المتاعب ) وعدم المجازفة بالتصدي للفساد والخلل والإهمال وكل ما يسيء للبلاد والعباد خوفا من سطوة ظالمة لمسؤول انتقامي ذو نفوذ طاغ لا يرحم ولا يخاف من خلق ولا خالق على الرغم ان الصحافة ووسائل الإعلام هي خير معين للحكومات والمسؤولين في مراقبة وكشف ومعالجة العديد من الإمراض الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والسياسية دون حساسية مفرطة ولم يعد غريبا الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيين في أكثر من موقع.

هناك في الغرب الصحافة تلتزم بالصدق وقواعد المهنة وتتحرى الحقيقة والموضوعية وتبتعد عن لغة الاتهام وتصفية الحسابات والتشهير وممارسة الابتزاز لتحقيق أهداف خاصة ولا تنهش كرامات وسمعة وأعراض الناس بالزور والباطل وعندهم لا تستحي الصحيفة من الاعتذار لقرائها حينما تجد في أخبارها كذب وتهويل كما فعلت جريدة نيويورك تايمز عندما تناولت أسلحة الدمار الشامل في العراق حيث اعتمدت حينها على معلومات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والتي ثبت عدم مصداقيتها أيضا قدم رئيس تحرير صحيفة " ديلي ميرور " البريطانية استقالته بعد نشر صور التعذيب للمعتقلين العراقيين على أيدي الجنود الأمريكيين ولم يلق المسؤولية على طاقم العمل.

في المقابل لم نجد صحيفة عربية ترى الاعتذار فضيلة وسنة حسنه عندنا من الصحف من لا تراعي المصداقية في نقل الخبر وكثير من الصحف لدينا لا تصلح سوى لمسح الزجاج وتغليف المشتريات وفرشها تحت الطعام.

ولم يعد مقبولا التبرير أن سبب التخلف الصحفي هو مقص الرقيب وتدخلات رئيس التحرير البعض يريدها حرية صحفية بلا حدود وغير منضبطة تهاجم الثوابت والأسس والمبادئ وتحض على الجريمة والرذيلة والفسق وعدم احترام العادات والتقاليد والدين والخصوصية وتجاوز الخطوط الحمراء دون النظر للمصالح والمفاسد عند الكتابة مما يفتح المجال لأي مغرض لتصفية الحسابات والنيل والتشهير بالناس وأكل لحومهم وهم أحياء.

الصحافة الحرة النبيلة الشريفة لا تكون على حساب الوطن وأبنائه من اجل كسب الجماهير التي عادة ما تحب الشتم والنقد والتعرية والعبارات القاسية.

لابد من اعتماد نهج الكتابة الوطنية البعيدة عن محاباة أو استرضاء المسؤولين أو تضليل الواقع والرأي العام وتغييب الحقيقة فألاهم المصلحة العامة وخدمة الوطن والكتابة الوطنية تعتبر من أهم روافد الأمن الفكري الذي يدافع عن الوطن ومكتسباته ومنجزاته والذي يبعد أبناءه عن إثارة الفتنة والطائفية وتهييج المشاعر فلنتعظ حتى لا نضع الأصفاد طوعا بأيدينا ونسلط على ظهورنا سياط الجلاد ونقول ظلمنا.

الإعلام يبقى نبض الأمة والمجتمع من حيث توجيه السلوك وتشكيل العقول وغرس القيم والأخلاق ومن هنا على الصحافة لزاما كانت ورقية أم الكترونية مراعاة مسؤولية الكلمة وأمانة القلم وموضوعية الكتابة والاهتمام برسالة الإعلام السامية في الارتقاء والتربية والانسجام والبعد عن الهبوط والسفا سف والمثيرات الجانبية.

لكي تكون عندنا سلطة رابعة حقيقية لابد من فتح نوافذ الحرية المسؤولة ونزع العصا الغليظة من أيدي المتربصين بالصحافة ورجالاتها بقانون أو بدون قانون والتأكيد دائما على أن الصحفي الشريف الملتزم بأخلاق المهنة وقسمها وميثاقها هو الذي يتحرى الحقيقة ولا يكتب إلا الصدق بعيدا عن المصالح والمغانم والشهرة.

وأخيرا عندما عين محمد حسنين هيكل وزيرا للإعلام في السبعينات إبان حقبة جمال عبد الناصر قال لمن حوله ( اليوم جرى تخفيض مسماي الوظيفي من صحفي إلى وزير ) وهو كان رحمه الله من أكثر الصحفيين العرب استغلال مادي ومعنوي لهذا المسمى وفضائية جزيرة قطر تشهد له وعليه ( رعاكم الله فرسان القلم ودمتم بخير ).

mahdmublat@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات