حتمية الجغرافيا وتحديدات السياسة


للجغرافيا أحكامها التي لا يمكن تجاهلها طال الزمن أو قصر، والتي لا بد وأن تفعل فعلها في المواقف السياسية، فالجغرافيا لها حتميتها، فعندما نتكلم عن الجغرافيا فإننا نتكلم عن الوعاء الأمني الواسع الواحد الذي تتكامل فيه كافة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لشعوب تجمعها مصالح واحدة، فعندما تشكل مجلس التعاون الخليجي في مطلع الثمانينيات كانت الجغرافيا واضحة في هذا الاتحاد من حيث إن كافة أقطار هذا المجلس دول عربية لها سواحل على الخليج العربي وتعتمد أساساً على مورد اقتصادي أساسي هو النفط، ففي دورة التاريخ قد تظهر ضرورات سياسية معينة تساعد على تسريع التعاون ما بين عدد من الدول المتجاورة، وهذا ما حصل لدى دول مجلس التعاون الخليجي ،عندما ظهرت متغيرات سياسية عجلت في ظهورها وفي مقدمتها الأخطار التي شعرت بها هذه الدول بعد نشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران وخشيتها أن تصل نيران هذه الحرب إلى عقر دارها، إن حتمية الجغرافيا على الرغم من أهميتها لا تعمل من تلقاء نفسها وإنما تحتاج إلى إرادة سياسية لتفعيلها وتسريعها، وإزالة العوائق التي تقف أمامها والتي غالباً ما تكون مصالح شخصية أو خلافات سياسية طارئة أو ضغوطاً أجنبية. لقد أشرت سابقاً وفي أكثر من مقال أو دراسة أن وطننا العربي وبحسب منطوق الجغرافيا السياسية يمكن تقسيمه إلى أربع وحدات جغرافية أساسية متماثلة ولها صفات مميزة وهذه الوحدات هي وحدة الهلال الخصيب والتي تضم الأردن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والتي تعد وحدة متكاملة جغرافياً وبشرياً واقتصادياً، ولا يمنع من قيامها سوى توفر الإرادة السياسية الواعية والمخلصة، ومجموعة الجزيرة العربية والتي تضم مجلس التعاون الخليجي واليمن والتي تعد خزان النفط العربي، لذلك فهي معنية بإقامة تحالف الأثرياء لتحقيق استقرار المنطقة والاستفادة الأمثل من الثروة، ومجموعة وادي النيل والتي تضم مصر والسودان ويمكن ضم ليبيا لها من حيث إن مصر والسودان يربطهما شريان مائي واحد وأن أي عبث بهذا الشريان من أية دولة معادية سيلحق يهما ضرراً فادحاً، ومجموعة المغرب العربي والذي يضم تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والتي تفرض عليها حتمية الجغرافيا تجاوز خلافاتها السياسية حتى تستطيع أن تقف أمام المجموعة الأوروبية وتوفر الأمن والرفاه لمواطنيها بدل أن تكون بسبب ظروفها السياسية والاقتصادية عامل طرد وتهجير لسكانها باتجاه سواحل أوروبا الجنوبية مع ما تمثله هذه الهجرة غير الشرعية من مخاطر كبيرة على مواطنيها.
إن مجموعة الجزيرة العربية حاليا تعد من انضج المجموعات العربية التي تسعى نحو استكمال أسباب تكاملها. وربما إن ادراك هذه الاخطار ناتج عن تفسيرات خارجيه تحدد لها مصادر التهديد او ناتج عن تقدير منها حول تلك المصادر، وهذه الدول لها ظرف خاص بسبب الثروه النفطيه الكبيره واتي تعتبر عصب الحضالره الغربيه ،لذالك فان هذه الدول معنيه باستمرار تدفق النفط اليها ومن هذا المنظور فانها تنظر باهتمام بالغ الى امن دول الخليج لاسباب تتعلق بمصالحها في حين ان هذه الدول ليست معنيه بنفس القدر حول امن الاقطار العربيه الاخري وهي تنظر الى امن هذه الاقطار من الزاويه الاسرائيليه فقط في حين ان هذه الاقطار ليست مهتمه بالشكل الكافي الى امنها سواء على الصعيد القومي او القطري ، في الوقت الذي تواجه فيه أخطاراً كبيره ايضا ، فمجموعة الهلال الخصيب على سبيل المثال تواجه أخطاراً خارجية كبيرة على خلفية المياه والصراع العربي الإسرائيلي، ونتائج حرب الخليج الأولى والثانية وغزو العراق واحتلاله وكذلك تواجه تحديات داخلية متمثلة في تدهور الأوضاع الاقتصادية لمعظم أقطار هذه المجموعة، تفرض عليها أن تخضع متغيراتها السياسية إلى حتمية الجغرافيا وكلما أسرعت في ذلك كان أفضل لها أنظمة حاكمة وشعوباً.
ان مجلس التعاون الخليجي هو حاله طاريئه فرضتها الظروف وشجعت على قيامها عدد من الدول الغربيه وفي مقدمتها امريكا .وان سقف هذا الاتحاد محدد وان توسعه الى آفاق جديده ربما يواجه بفيتو من امريكا واسرائيل، وهذا ما لاحظناه عندما توجهت هذه الدول لضم اليمن الى هذا الاتحاد على ان تقوم دول المجلس بتأهيله اقتصاديا ، الا انه كما يبدو قد ماتت الفكره في مهدها لوجود معارضه على انضمام دوله يزيد عدد سكانها عن (20)مليون نسمه الى هذا الكارتيل ، كما ان اليمن لديه احزاب وعنده حاله ديموقراطيه غير متوفره لدى معظم دول الخليج الاخرى .
إن التكتلات الجغرافية حالياً تنشأ من منطلقات اقتصادية وأمنية قبل أن تنشأ من منطلقات فكرية مجردة أو سياسية متناقضة، فخلق مصالح للشعوب من خلال التعاون يعد أمراً ضرورياً ومهماً قبل الانطلاق لأي شكل من أشكال الوحدة مستقبلاً.
إن فكرة وحدة الهلال الخصيب والذي مثل وحدة واحدة على مدار التاريخ القديم والحديث وحتى ابتلينا بتقسيمات سايكس بيكو، تعد من أقدم الأفكار الوحدوية العربية التي انطلقت منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم كرد عملي على خطط سايكس بيكو، عندما نادى المغفور له الملك عبد الله بوحدة الهلال الخصيب اعتماداً على ضرورات الجغرافيا والاقتصاد والمخاطر الخارجية، ولكن الخلافات السياسية السطحية والحساسيات الشخصية والتدخلات الخارجية كانت أقوى من ضرورات الجغرافيا والاقتصاد والأمن. وبعد أكثر من سبعين عاماً على طروحات المغفور له الملك عبد الله، ما زالت منطقة الهلال الخصيب بعيدة عن فكرة الوحدة أو حتى التكامل الاقتصادي الذي يوفر الرفاه والأمن لشعوبها، فالعراق الدولة الغنية بمواردها مدمره ومحتله وشبه مجزأة وسوريا مهدده من اكثر من جانب وتعاني من صعوبات اقتصاديه جمه ناتجه عن سعيها لبناء جيش كبير لمواجهة اسرائيل . والأردن تعاني من أوضاع اقتصادية مزمنة لا يمكن حلها بدون تكامل اقتصادي إقليمي يضم مجموعة الهلال الخصيب، ولبنان خاض حرباً أهلية دمرت منجزاته ولم يتعافى للآن. وشعب فلسطين لا يزال يرزح تحت الاحتلال والعدوان الإسرائيلي. إن الموارد التي أنفقت في الحروب الخارجية والفتن الداخلية لأقطار هذه المجموعة لو استخدمت الاستخدام الأمثل لكانت هذه المجموعة من أكثر الأقطار العربية استقراراً ورفاها ، ولشكلت قوة عسكرية رادعة لكل من تسول له نفسه العبث بأي من أقطارها. فوحدة هذه المجموعة وتكاملها الاقتصادي والأمني حتمية جغرافية وضرورة اقتصادية، ومطلب جماهيري، فهل نحن واعون لهذه المخاطر وهل قياداتنا السياسية تأخذ مجموعة الجزيرة العربية نموذجاً، علماً أن أفكار الوحدة العربية، وقادة الفكر القومي العربي قد خرجوا من هذه المنطقة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات