استقالة عبد المهدي ليست الحل لكنها خطوة أولى نحو التغيير


بعد نحو شهر من احتجاجات الشارع العراقي والمواجهات الدامية التي شهدتها معظم المدن العراقية الرئيسية والتي أوقعت مئات القتلى والجرحى وبدعوة صريحة من المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني وجهها لمجلس النواب العراقي للعمل على سحب الثقة من الحكومة والتي سانده وأيده فيها كل من تحالف النصر بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وزعيم كتلة سائرون مقتدى الصدر وتحالف الفتح الذي يمثل فصائل الحشد الشعبي رغم أنها جاءت متأخرة بعدما أريق الكثير من دماء العراقيين.

في ظل هذه الأجواء المشحونة بالخلافات والتوتر والعنف والخراب قدم رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي استقالته رسميا للبرلمان والذي وافق عليها من اجل البحث عن حل آخر لإنهاء مأزق الحكومة وإدارة الأزمة وعلى أمل وقف دوامة الفوضى والقتل وأعمال العنف المفرطة بالذخيرة الحية وقنابل الغاز التي وجهت إلى رؤوس المتظاهرين والتي يتحمل مسؤوليتها بشكل مباشر عبد المهدي نفسه والقائد العام للقوات المسلحة وباقي طاقم الحكومة رغم تهربهم من المسؤولية وتكرار نسبها زورا إلى طرف ثالث.

لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الصراعات والمعارك الجانبية الحادة والانتقادات العميقة بين مختلف من الكتل والأحزاب السياسية المتناحرة والتي لن تتخلى عن نفوذها عبر استقالة عبد المهدي الذي جاء للحكم أصلا بوصاية إيرانية وبتفاهم بين أكبر كتلتين في البرلمان وقد تدخل استقالته الطارئة في باب المناكفات داخل الأحزاب الشيعية فيما بينها وبين كتل وأحزاب أخرى لإلهاء الشارع العراقي وحرف بوصلته عن انتفاضته ومطالبه.

المظاهرات العراقية التي شكلت أكبر تحدٍّ للنظام السياسي الحالي اندلعت في تشرين الأول الماضي في العاصمة العراقية بغداد قبل أن تمتد سريعا إلى محافظات ومدن وسط وجنوب العراق ذات الغالبية الشيعية حيث انضم إليها وساندها بزخم كبير التجمعات النقابية والاتحادات والطلبة والشباب والرجال والنساء وبصمود أسطوري أمام كل ما يتعرضون له من ضغوط وعمليات قتل وإجراءات تصعيديه احتجاجا على نقص فرص العمل وضعف الخدمات قبل ان تتطور وتتوسع بصورة غير مسبوقة وتشمل المطالبة برحيل الحكومة والنخبة السياسية التي ينظر إليها باعتبارها فاسدة وتخدم مصالح إيران وأمريكا الحليفتين الرئيسيتين للعراق.

مما يظهر جليا بروز مؤشرا خطيرا على أن عراق ما بعد صدام حسين الذي أنشأته امريكا أصبح اليوم عرضة لاحتمال الانهيار علي يد من اعتبروا في الماضي أبطال ساهموا في الإطاحة بنظام حزب البعث بعد استشراء فسادهم وتقسيمهم المجتمع على أسس طائفية وتوزيعهم الغنائم بين نخبهم الحاكمة التي اعتمدت على عنف المليشيات لقمع الاصطفاف الشعبي ضدها ما أدى إلى ضعف شرعية النظام بالكامل والاعتراض الشعبي المتزايد على توسع النفوذ الإيراني في جميع مفاصل الدولة وذلك بعد 16 عاما من الغزو الغربي الذي قادته واشنطن عام 2003.

الاستقالة برمتها كجزء من الوسيلة لانتزاع السلطة من يد الحكومة الفاسدة ونقلها إلى الشعب لن ترضي المرابطين في ساحات الاحتجاج في مختلف المدن العراقية نظرا لرفضهم واعتراضهم على مجلس النواب ذاته ومطالبتهم بحله وقد طالب بعضهم باستقالة رئيسي الجمهورية والبرلمان وتشكيل حكومة تكنوقراط أو حكومة طوارئ بمدة مشروطة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة وبموجب الدستور أمام البرلمان العراقي 15 يوما ليختار رئيس وزراء جديدا لكن تجارب الماضي أظهرت أن هذه المهمة لا يمكن إنجازها قبل عدة أشهر وأن الفشل في التوصل لوفاق بين مختلف القوى لاختيار من يشغل المنصب ربما يغرق البلاد في هاوية سحيقة أكبر وأعمق.

الحراك العراقي المستعر تسبب في تجذير حالة العداء الدموي من قبل مواطني جنوب العراق ووسطه على وجه التحديد ضد إيران ووكلائها حيث تم إضرام النيران في القنصلية الإيرانية بمحافظة النجف كرد على دعم طهران للحكومة العراقية في قمع المحتجين خاصة بعد اكتشاف أن قنابل الغاز التي استخدمت ضد المتظاهرين وتسببت في قتلى وجرحى كانت صناعة إيرانية وتم أُحرق العلم الإيراني علانية في بغداد وغيرها من المحافظات الأخرى وقد دشن عدد المحتجون حملة شعبية واسعة لمقاطعة المنتجات الإيرانية وردد المحتجين في هتافاتهم بألم وقهر وغضب ( قتلونا في بغداد والناصرية والبصرة بمشورة من إيران والآن نطلقها في النجف إيران برا برا بغداد تبقى حرة ).

فيما حاولت مجموعة كبيرة من المتظاهرين اقتحام مؤسسة الحكيم التي تضم قبر محمد باقر الحكيم ( مؤسس المجلس الأعلى الإسلامي ) في ساحة ثورة العشرين حيث قامت القوة الأمنية المكلفة بحماية المؤسسة بتفريق المحتجين مستخدمة الرصاص الحي وقد أعلنت محافظات ذي قار والنجف وبابل والديوانية والمثنى جنوبي العراق الحداد ثلاثة أيام وتعطيل الدوام الرسمي اعتبارا من يوم الأحد الماضي حدادا على الضحايا الذين قتلوا في محافظتي النجف وذي قار مؤخرا.

ورغم ترحيب بعض المحتجين العراقيين باستقالة عبد المهدي لكنهم يعتبرونها غير كافية ولا زالوا يتمسكون بضرورة إصلاح النظام السياسي بالكامل من عفن الفساد الذي يبقيهم في حالة فقر وبطالة وجوع ويحجب عنهم أي فرص لحياة أفضل ومن الضروري الفهم بان مطالب المواطنين العراقيين لم تعد فقط الإصلاحات وتوفير سبل المعيشة الروتينية إنما شعرها العريض التغيير الشامل لطبقة سياسية متخاذلة بنت كل شيء في البلد على أساس مصالحها هي لا مصالح الشعب العراقي وبالتالي فهي المسؤولة عما حصل ويحصل في البلاد منذ 16 عام مضت من الدمار والضياع والموت.

وكعادته سجل القضاء العراقي النزيه موقفا مشرفا بمطالبته معاقبة كل من اعتدى على المتظاهرين وفق قانون العقوبات وقد دعا المصابين وذوي القتلى إلى تسجيل إفاداتهم لدى الهيئات التحقيقية في مدينتي الناصرية والنجف للبدء بملاحقة المتهمين.

يذكر انه منذ بدء الاحتجاجات سقط 418 قتيلا ونحو 15 ألف جريح وفق أرقام لجنة حقوق الإنسان البرلمانية ومفوضية حقوق الإنسان ( هيئة رسمية) ومصادر اخرى طبية وحقوقية.

رغم مقتل المئات منذ اندلاع شرارة الاحتجاجات المناهضة للحكومة لا زال يحلم المتظاهرون في ميدان التحرير ( مركز الاحتجاجات ) وسط بغداد بمستقبل مشرق لبلادهم بعدما توحدت القلوب والتوجهات في محافظات شمال وغرب البلاد ذات الغالبية السنية في تنظيم وقفات وطنية داعمة لاحتجاجات محافظات الجنوب وفي حال استمرار الخلافات والمنافسات والصراعات بين الكتل سوف تؤدي الى تعاظم الاحتجاجات بصورة أكبر شمولية وأكثر خطورة علماً بأن استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي ليست وحدها هي الحل لكنها في بأقل القليل تشكل الخطوة الأولى في الطريق نحو التغيير.

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات