هولوكوست أوحد



 
كما في المثل الشائع: لا نرحمك، ولا ندع رحمة الله تنزل عليك!

أو، إذا شئنا تحريف مثل شائع آخر، نستمطر آلاف اللعنات على الظلمة، خيرا من أن نشعل شمعة واحدة!

هذه حال غلاة اليهود إزاء العلاقة بين الهولوكوست والأرشيف التاريخي، وهذا جوهر موقفهم في استخدام العداء للسامية كأوالية تأثيم رهيبة ضدّ كل من تسوّل له نفسه مراجعة التاريخ، أو التدقيق في الأرشيف، حتى صارت مفردة "مراجعة" سبّة في حدّ ذاتها، وممارسة رجيمة، وسلوكاً مناهضاً لليهود. وبالطبع، ليس المرء بحاجة إلى عناء شديد كي يتخيّل استثناء هذه القاعدة، الوحيد في الواقع: مراجعة التاريخ بما يفيد تدعيم الرواية اليهودية الرسمية عن الهولوكوست، تحديداً وحصرياً، وضدّ كلّ وأيّ رواية أخرى.

خذوا، على سبيل المثال، لائحة أحدث إصدارات متحف الهولوكوست التذكاري في واشنطن: "مصادرة أملاك اليهود خلال الهولوكوست، 1933 ـ 1945"، "المحرقة في أوكرانيا: التاريخ، الشهادة، الإستذكار"، "قسّيسو هتلر: رجال الدين الكاثوليك والإشتراكية القومية"، "بين المقاومة والإستشهاد: شهود يهوه خلال عهد الرايخ الثالث"... وغنيّ عن القول إنّ هذه الأعمال تعتمد منهجاً إنتقائياً مفرطاً في عزل بعض الوقائع عن سياقاتها بحيث تأخذ بعداً أحادياً يضخّم معاناة اليهود، الأمر الذي يقترن أيضاً بإهمال ـ أو حتى تشويه، وطمس، وطيّ ـ الوقائع الأخرى التي تصف معاناة الآخرين.

وعلى الموقع الرسمي للمتحف، وإذْ يأكل أهل غزّة علف الحيوان جرّاء الحصار الإسرائيلي البربري، يختار إيلي فيزل ـ القيّم على تراث الهولوكوست، وحامل جائزة نوبل للسلام ـ التعليق على مأساة أهل دارفور، هكذا: "في التوراة نجد الوصية التالية: Lo taamod al dam reakha، أي "لا تقف ساكنا أمام سفك دم أخيك الإنسان". إن الوصية الإلهية لم تقل akhikha أي أخيك اليهودي، إنما reakha أي أخيك الإنسان، سواء كان رجلاً أم امرأة، يهودياً أم غير يهودي. فالبشر أجمعون لهم الحقّ في حياة كريمة يحدوها الأمل بلا خوف أو ألم!

وذات يوم، قبل عقد من الزمن، كاد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن يدخل التاريخ اليهودي بوصفه أوّل زعيم عربي يزور متحف الهولوكوست، فيدشّن "خطوة تصالح رمزية بالغة الدلالة" بين الضمير العربي والضمير اليهودي من جهة، وبين التاريخ الفلسطيني وتاريخ الهولوكوست من جهة ثانية وبصفة خاصة. كان هذا، على الأقلّ، هو الغرض الأبعد الذي سعى إليه دنيس روس ومساعده أرون ميلر حين حثّا عرفات على القيام بالزيارة، فكلاهما يهودي، وكلاهما عضو في مجلس إدارة المتحف، وكلاهما يشغل منصباً رفيعاً في الخارجية الأمريكية.

ما حدث بعدئذ أسقط مقترح الرمز والتصالح، وعزّز الحكايات العتيقة المتأصلة حول احتكار اليهودي لعقدة الضحية وممارسة دور الجلاد في آن معاً، وانخراطه أكثر فأكثر في استمطار اللعنات على الظلمة بدل إشعال شمعة واحدة. في البدء وافقت إدارة المتحف (وهو، للإيضاح، مؤسسة فدرالية أمريكية وليس ملكية خاصة)، ثم حجبت حقّ عرفات في معاملة الـ VIP المخصصة لكبار الزوار، وتفضلت عليه بحقّ الدخول كأيّ زائر عادي، ثم تلكأت وتأتأت حتى اقتنع عرفات أنّ الزيارة في صيغتها هذه سوف تنطوي على مهانة شخصية له، قبل إهانة شعبه.

والعالم، آنذاك، لم يكد يفرغ من محاكمة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي (بالتهمة ذاتها: "مراجعة" التاريخ، ليس في صالح الرواية اليهودية عن الهولوكوست) حتى لوّح غلاة اليهود في أمريكا وبريطانيا بإطلاق محاكمة ثانية تخصّ الحكاية ذاتها، مع فارق أنّ الفزّاعة كانت هذه المرّة تستهدف نورمان فنكلشتاين (المؤرخ وعالم الاجتماع الأمريكي المرموق وأستاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك، واليهودي سليل أسرة ناجية من المحرقة)؛ وروث بتينا بيرن (المؤرخة الكندية، والباحثة المسؤولة عن ملفات الجرائم بحقّ الإنسانية في وزارة العدل الكندية). أما صاحب الدعوة فهو دانييل جوناه غولدهاغن، صاحب مجلد في 619 صفحة، عنوانه "جلاّدو هتلر المتطوعون: الألمان العاديون والهولوكوست"، وأطروحته الوحيدة هي التالية: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست، و"ما يُقال عن الألمان لا يمكن أن يُقال عن جميع الأمم الأخرى مجتمعة.

الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست". جريمة فنكلشتاين وبيرن كانت تفنيد أطروحة غولدهاغن، على نحو علمي هادىء، وفي دورية فكرية رصينة هي "المجلة التاريخية" التي تصدر عن جامعة كامبردج، التي كانت قد اتصلت به لكي يردّ، فاختار أن يفعل عن طريق مكتب محاماة!

وهنا، في العودة إلى إيلي فيزل، فقرة ثانية من بكائيته على أهل دارفور: "بصفتي يهودياً لا يرى مأساة تُقارَن بحجم الهولوكوست، أجد نفسي مهتماً بالمأساة السودانية وأعتبرها تحدياً. لا بدّ لنا أن نشارك. كيف لنا أن نلوم غير اليهود على لامبالاتهم تجاه معاناة اليهود، إذا التزمنا نحن الصمت واللامبالاة تجاه محن الآخرين؟". وبالفعل، كيف للمرء أن يفهم أنّ البربرية الإسرائيلية تتواصل في غزّة، ولا يرتفع ضدّها إلا القليل ـ الحائر، المتنافر، الخافت، الخجول ـ من أصوات يهود العالم؟
أو، بالأحرى: كيف للمرء أن لا يفهم ذلك الصمت!
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات