الربيع العربي .. بين موجتين


تؤشر التحركات الشعبية في غير بلد عربي خلال الأشهر الأخيرة لما يمكن اعتباره حقا موجة ربيع عربي ثانية بأقل من عقد من الزمن، لكنه ربيع ثان لا يبدو جارفا بأهدافه ونتائجه على شاكلة النسخة التونسية ومن ثم المصرية العام 2011، لأسباب عديدة يمكن استنتاجها مآلات “الربيع” بموجته الأولى بعد أن أدخل أقليميا ودوليا بدهاليز سوداء ارتدت على مصالح الشعوب واستقرار دولها.

رياح الموجة الثانية تصل اليوم للبنان بتركيبته المعقدة والحساسة، وقبلها كانت تحط في العراق الذي تشبه ظروف تركيبته الداخلية لبنان، وسبقتها بقوة في السودان، حيث أطاحت الجماهير بنظام البشير في الطريق لنظام جديد دونه حتى الآن حسابات وتعقيدات كثيرة، وقبلها وبالتزامن معها وحتى اليوم حراك شعبي جزائري يراكم على مهل الاختراقات الاصلاحية دون ان تحقق حتى الآن طموحات هذا التحرك.

وأبت تونس، التي كانت مهد انطلاقة الربيع العربي، إلا أن تضع بصمتها بهذه الموجة الثانية، بتقديم الشعب التونسي لشخصية من خارج طبقة الحكم لرئاسة وقيادة البلاد. في الأثناء؛ لم تخل ساحة عربية من خارج منظومة دول الخليج التي لها ظروفها ومعطياتها الخاصة المعروفة، اقتصاديا ومعيشيا بصورة أساسية، من حراكات وانفجارات شعبية مطلبية ومعيشية الطابع والإصلاحية بجوهرها، لكنها لم ترتق؛ على الأقل حتى الآن، لما جرى ويجري في لبنان والعراق والجزائر والسودان.

قد يكون من المبالغة تشبيه الموجة الثانية بالأولى للربيع العربي لاختلاف ديناميكات تطور الحراكات الشعبية بالموجة الأولى عنها في الثانية، ربما باستثناء الحالة السودانية التي وصلت لتغيير النظام أو رأسه وتحقيق اختراقات إصلاحية واضحة، لكن التشبيه والمصطلح (الربيع العربي) مغريان للمراقب نظرا لتعبير الحراك الجماهيري بالحالتين عن ذات الشعارات المطالبة بالحرية والكرامة والكفاية المعيشية والاقتصادية ومحاربة الفساد وتغلغله بمفاصل الطبقة الحاكمة، كما تشترك الموجتان بالهدف وهو المطالبة بتغيير الطبقة الحاكمة بعد اليأس من قدرتها على تغيير النهج وإمعانها بسياسات الإفقار والإفساد.

لن تكون الموجة الثانية من هذا الربيع أسهل من الأولى، لكن ما يمكن أن يسهّل من وصولها لأهدافها هو استخلاص العبر والدروس من الموجة الأولى لتفاديها وهو ما يمكن القول أنه نجح في الحالة السودانية.

فالموجة الأولى من “الربيع” حققت نجاحا كبيرا وبأقل كلفة وطنية بمرحلتها الأولى عندما اجتاح الربيع تونس ومصر، ليتعثّر بعدها وينقلب وبالا ودمارا بمرحلته الثانية في ليبيا وسورية واليمن، بعد أن دخلت على خط التحرك الجماهيري السلمي بهذه البلدان حسابات وأجندات اقليمية ودولية، سعت لجرّ حراكات الجماهير لمصالحها فعسكرت هذه التحركات واخرجتها عن السلمية واغدقت عليها بالسلاح والمال والرجال ووظفت الهويات الفرعية واستنفرت الغرائز البدائية لحشد المناصرين باسم الدين والطائفة والأيديولوجيا مستعجلة النصر لأجندتها هي لا لمصالح شعوب هذه الدول، ما أدخل ليبيا وسورية واليمن في تقسيمات بدائية وحروب أهلية مدمرة ما تزال مشتعلة حتى اليوم رغم تغيير النظام في ليبيا واليمن مبكرا.

التجربة السودانية التي أنجزت بالموجة الحالية لهذا الربيع استنسخت التجربة التونسية والمصرية ولم تتورط الجماهير وقياداتها الشعبية بالخروج عن السلمية ولم تذهب للعسكرة كما في التجربة الليبية والسورية واليمنية، فحققت النجاح وانتصرت، وقد يكون من حسن الحظ اليوم ان أطرافا اقليمية كانت فاعلة بالموجة الأولى في عسكرة الثورات العربية وجرها لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية هي اليوم منقسمة فيما بينها ويصعب عليها الاتفاق على توحيد جهودها لخطف حراكات الجماهير العربية لصالح أجنداتها!

قد لا تحقق الحراكات الجماهيرية الحالية في لبنان وغيرها أهدافها سريعا، وقد تتوقف بعد أسبوع أو أسبوعين كما حصل في الحالة العراقية الأخيرة، لكنه لن يكون توقفا دائما، فالاحتقان وتفاعل عوامل الأزمة سيتواصل في كمونه وسيكون قابلا لانفجارات أخرى وأقوى حتى ترضخ الطبقات الحاكمة لشروط الإصلاح وتغيير النهج الذي جلب ويجلب الخراب لحياة هذه الشعوب ومستقبلها.



تعليقات القراء

ABU SAIF
اتمنى ان لا تدخل ايدي خارجيه مثملما ما حصل مع الربيع العربي وتغير مساره لحروب وتدمير داخليه وخاصه ان لبنان لديها البنيه التحتيه لهذا الشيء من شيعه وسنه ومسيحي ودرزي .. الخ
21-10-2019 08:49 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات