37 سنة فساد ..


يزداد هذه الأيام وضمن سياق أزمة إضراب المعلمين الحديث عن "فساد" الحكومة المستشري، ومع أن الحديث بمجمله يتركز على الوزراء وكبار المسؤولين، إلا أن "الوصمة" كثيرا ما تطال شرائح أخرى من العاملين في القطاع العام كشركاء في "الجريمة" أو ساكتين عنها والساكت عن الحق شيطان أخرس كما يقولون، ولكون العبد الفقير إلى الله قد عمل في القطاع العام قرابة سبعة وثلاثين عاما"، فإنني كثيرا ما أجد نفسي في دائرة الإتهام أو في موقع الدفاع في مواجهة ما استقر لدى الرإي العام والذي سرعان ما تحول من مجرد انطباع إلى قناعة راسخة. 

أعلم تماما أن إية مرافعة في هذا المجال لن تفلح في تغيير قناعات الكثيرين ، ولكنها شهادة أجد من واجبي أن أقدمها ليس دفاعاً عن أحد ولا صك غفران لأي كان، وإنما كلمة حق من "شاهد شاف كل حاجة" في مواجهة سيل جارف من الإتهامات التي أصبحت تطال قطاعاً بأكمله يعمل فيه آلاف مؤلفة من الموظفين. 

لقد عرفت وعايشت خلال خدمتي الطويلة عن قرب كل المشاكل والعيوب والأمراض التي يعاني منها القطاع العام، والتي لم تمنع الكثيرين من العمل بكل صدق وأمانة وإخلاص، وهو ما يعمد الكثيرون قصداً على إنكاره والتغطية عليه مقابل تسليط الضوء على حالات التقصير والإهمال والمبالغة في تضخيمها. 

إن الذين ينتقدون الفساد المالي للحكومة يظهرون وكأن الأمور "سايبة تماماً" وأن الوزراء وكبار المسؤولين يدخلون الى مكاتبهم وأماكن عملهم بحقائب فارغة في الصباح يخرجونها ممتلئة في المساء، ويتجاهلون أن الأمور المالية محكومة بإجراءات ومعايير صارمة تخضع للعديد من مستويات الرقابة والتدقيق، وأود في هذه العجالة أن أتعرض لمحطتين في حياتي المهنية الأولى عندما كنت مسؤولا في برنامج ضخم لتطوير البنية التحتية تم من خلاله تنفيذ مئات المشاريع التي تضمنت إنشاء مدارس ومراكز صحية ومراكز تنمية اجتماعية وطرق وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي في مختلف المناطق بكلفة بلغت حوالي (70) مليون دينار من خلال مئات العطاءات التي تم طرحها وإحالتها بمنتهى النزاهة والشفافية، تقدم لها مئات المقاولين فاز فيها من فاز ولم يعترض من لم يفز ، فالإجراءات واضحة عادلة وشفافة، وقد شاركت في دراسة وإحالة معظم هذه العطاءات ولم ألمس لا من قريب أو من بعيد أي محاولة للتدخل في ذلك أو التأثير عليه لا من وزير ولا من أمين عام ولا من سواهما. 

أما المحطة الثانية فقد كنت فيها مديرا لبرنامج تنموي موازنته السنوية خمسة وعشرون مليون دينار، لإعطاء منح لأفراد وجمعيات ومؤسسات وبلديات لتنفيذ مشاريع تنموية وخدمية وفق معايير وأسس محددة، تم الإلتزام بها بمنتهى الصرامة حتى في الحالات التي كان يتبناها أو يحاول التوسط لها نواب وأصحاب مراكز ونفوذ، ولا أذيع سراً عندما أصرح بأن ممثلين لمديرية معنية بمكافحة الفساد ضمن جهة نافذة ومهمة كثيرا ما تواصلوا معنا ليس للتوسط أو التأثير لصالح هذا الشخص أو تلك الجمعية، وإنما للتأكد من أن الأمور في نصابها إثر تلقيهم شكوى أو ملاحظة ما، لا فضل لي أو بطولة في هاتين المحطتين فلم أكن سوى واحد ضمن فِرَق أكبر تعمل بموجب أسس ومعايير وضعتها البيروقراطية الاردنية التي تتعرض هذه الأيام لحملات تشكيك وظلم بالغة، كما أن شهادتي هذه محصورة بالفترة والبيئة التي عملت بها، وإن كنت أزعم أن الإجراءات نفسها معمول بها في معظم دوائر الدولة. 

وقد يجادل كثيرون فيقولون اذا كانت الأمور مثالية كما تزعم، فما هو سبب الأزمات والمشاكل والمصائب التي نعاني منها صباح مساء، وهنا أؤكد بأن الفساد موجود لدينا كما هو موجود في كل دول العالم، ولكن المبالغة في ذلك مضر كثيرا والأكثر ضررا أن نستخدم ذلك ذريعة للتنصل من واجباتنا إو تبريرا لقيامنا نحن بممارسة الفساد بحجة أن الكل فاسد، يمثل الفساد المالي سبباً واحدا من أسباب ما آلت إليه الأمور أما بقية الأسباب فبعضها خارجي لا حول لنا فيه ولا قوة وأخرى داخلية تعود إلى إختلالات وتراكمات سابقة وإلى إنتهاج سياسات خاطئة أحياناً وغير ناضجة أحياناً أخرى تستعجل النتائج لإرضاء أصحاب القرار، إضافة إلى الواسطة والمحسوبية والتي هي مرض وآفة إجتماعية نحن جميعاً مسؤولون عنها قبل أن تكون عيباً في الإدارة الحكومية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات