رحل شيراك .. اخر وريث لمبادئ الجمهورية الفرنسية الخامسة


توفي يوم الخميس الماضي" بسلام وبدون معاناة مع الشافي والآلام " الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك وهو محاطا برعاية زوجته برناديث وابنته الثانية كلود وبعض أقربائه وأصدقائه عن عمر ناهز 86 عاما لتفقد فرنسا بذلك رجلا سياسيا محنكا قديرا وإنسانا حكيما ومتواضعا عرف بوضعه الصحي الجيد لكنه تعرض في أيلول عام 2005 أثناء ولايته الرئاسية الثانية لجلطة دماغية خلفت آثارا على صحته التي تدهورت بشكل واضح خاصة بعد وفاة ابنته لورانس عام 2016 وبرحيله يغيب أحد كبار وجوه اليمين الفرنسي عن المشهد السياسي ويعود آخر ظهور علني له في حفل رسمي في تشرين الثاني من عام 2014.

يعتبر شيراك أحد أبرز وأهم وجوه الحياة السياسية الفرنسية الحديثة حيث بدأ مشواره ونضاله السياسي عام 1965 عندما كسب معركته الأولى وأصبح مستشارا في بلدية سانت فيريول بمنطقة كوريز وفي 1967 ثم فاز بمقعد في البرلمان الفرنسي عن المنطقة ذاتها وقد أسس أكثر من حزب سياسي وكان آخر العمالقة الكبار من رجالات الجمهورية الفرنسية الخامسة وقد امتدت مسيرته السياسية لأكثر من أربعين عام حيث ودع الشعب الفرنسي بعد قراره اعتزال الحياة السياسية في 11/3 / 2007 بخطاب مؤثر عبر فيه عن إخلاصه لهم وفخره بخدمته بلاده (حيث كان محبوبا من الشعب وكان رئيسا استثنائيا في إنسانيته وقربه من الناس وكان يتحلى بروح الدعابة والنكتة والمزاح والاهتمام بالأصدقاء).

لقبه الأمريكان بـ ( هيرو شيراك ) نسبة الى هيروشيما اليابانية بعد إصراره على إجراء التجارب النووية الفرنسية وقد كان رجلا مثقفا وصاحب رؤية بعيدة وعميقة ووصفه البعض بذئب السياسة الفرنسية والداهية البراغماتي المتلون لكن التاريخ أنصفه بأنه كان رئيسا لكل الفرنسيين حيث صقل شخصية كرجل سياسة شعبي وكان يتقن التعامل مع الجميع ويعرف كيف يلعب على التناقضات من اجل تحقيق مصلحة فرنسا العليا ونقلها الى مكان أفضل على مستوى العالم وقد استطاع ان يجمع اليمين الفرنسي الذي تلاشت قوته اليوم بعدما تراجع تيار الشيراكية وقد وصل شيراك إلى أفضل مكان في الحكم بعد ديغول وهو الذي دعم الرئيس سيركوزي للرئاسة وكان منفتح على كل التيارات السياسية ويقاوم اليمين المتطرف وكان أول رئيس فرنسي يعترف في عام 1995 بمسؤولية فرنسا عن ترحيل اليهود خلال الحرب العالمية الثانية.

انتخب رئيسا للجمهورية لولايتين متتاليتين في العامين 1995 و2002 بعد مواجهة غير مسبوقة مع حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف وبقي 12 عاما في منصبه بقصر الإليزيه ما جعل منه الرئيس الذي يقضي أطول فترة رئاسية بعد سلفه ومنافسه القوي الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي امضي 14 عام وبعد شيراك لم ينجح أي رئيس لفترتين وهو الذي قلص مدة الرئاسة من سبع سنوات إلى خمس وقد ظل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وفيا لمبادئ الجمهورية الخامسة التي أسسها مرشده وزعيمه الروحي الجنرال شارل ديغول في عام 1958 حيث كان يمثل الجانب الديغولي الاجتماعي بكل مفهومة الذي اختفى مع نجاح الرئيس امانويل ماكرون.

وبعد انسحابه من الحياة السياسية واصل نضاله الإنساني من خلال " مؤسسة شيراك " الناشطة من أجل السلام وقد أصبح أكثر شعبية بعد الرئاسة وقد حظي بالإجماع على المستوى الداخلي والخارجي وحاز على إعجاب ومحبة الفرنسيين من أصول مهاجرة وهم الذين رجحوا فوزه في الجولة الرئاسية الأولى.

تمتع شيراك بشعبية كبيرة في فرنسا والعالم العربي نظرا لمواقفه الشجاعة حيال قضايا الشرق الأوسط أبرزها رفضه مشاركة بلاده في غزو العراق إلى جانب الولايات المتحدة بقيادة جورج بوش الابن وبريطانيا بزعامة رئيس الوزراء توني بلير حين قال ( لا للحرب وقال بأنها ستقلب كل المواقف الجيوسياسية في المنطقة ) ما أعطاه مكانة كبيرة لدى المجتمع الدولي وقد كان صديقا حميما للبنان والرئيس الراحل رفيق الحريري وطالب السوريون عدة مرات بالانسحاب من لبنان إضافة إلى مواقفه العقلانية والجريئة حول الوضع المعقد في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية واهتمامه بالشعوب العربية.

ولا زال عالق في الذاكرة الحية للفلسطينيين والعرب مشهد جولته في أحياء القدس عام 1996 ودخوله في مواجهة مع الجنود الإسرائيليين أثناء محاولته الوصول إلى أحياء القدس القديمة وهو ينهر الشرطة الإسرائيلية لوقف منعها الفلسطينيين من الوصول إليه والتعامل معهم وقد عبر عن غضبه الشديد أمام عدسات الكاميرا حيث خاطبهم ( تريدون أن أستقل طائرتي وأعود إلى فرنسا اعرف هذا ما تريدونه ) مما أثار تعاطف الفلسطينيين معه ليحظى بعدها باستقبال شعبي حافل في مدينة رام الله وقد كان الريس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يصفه بالدكتور شيراك ويأخذ برأيه ومشورته وكثيرا ما دعم مواقف عرفات لدى القيادة الأمريكية والإسرائيلية وكان شيراك مقربا من الرئيس الراحل صدام حسين عندما كان رئيسا للوزراء (1974-1976) ثم ( 1986-1988 ) عندما دعمت فرنسا بغداد ضد طهران في الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988 ) وقد أمر عام 2003 متخف اللوفر الفرنسي الشهير بفتح قسم للحضارة الإسلامية وكان مهتم جدا بحوار الحضارات وفهمها.

اشد المعارضين له ليونيل جوسبان رئيس الوزراء الفرنسي والذي قال فيه كنت محضوضا انني توليت رئاسة الحكومة في ظل الرئيس شيراك رغم العلاقة التي كانت متوترة بيننا.

تعرض شيراك للنقد الشديد والواسع حول وجود تمويل خارجي لحملاته الانتخابية فضلا عن اتهامه بقضية ما سمي بالوظائف الوهمية وهو الرئيس الوحيد الذي صدر بحقه حكم قضائي بتهم الفساد وقد وجد البعض فيه ( نصيرا لاستعادة مجد أوروبا الغابر ومناهضا لأي تغيير ) بينما يرى فيه آخرون بأنه رجل المبادئ والمدافع العنيد عن قيم الإنسانية والتسامح والسلام ولكن نحن العرب كان لنا عتب كبير علية جراء استقباله ذات يوم المجرم المقبور شارون في باريس.

وكما في ميادين السياسة كان شيراك حاضرا ومتفاعلا في مضمار الرياضة حين شارك الجماهير تشجيع فريقهم الوطني فرحتهم في المباراة النهائية لكأس العالم عام 1998 في " ستاد دو فرانس" التي فاز بها المنتخب الفرنسي على نظيره البرازيلي في أول لقب لبطولة كأس العالم في تاريخ فرنسا.

كما عرف شيراك أيضا بحب ومغازلة النساء حيث ظهر في مقطع قبل عدة سنوات وهو يتقرب من النائبة الفرنسية عن الحزب الاشتراكي الراحلة صوفي ديسوس بشكل حميمي وبإعجاب لافت ومثير للمشاهدين.

بقي ان نقول ان ا الراحل جاك شيراك كان من بقايا جيل من قادة العالم كانوا متمسكين بمدونة سلوك رفيعة المستوى والمكانة محليا وإقليميا ودوليا ربما احتفت اليوم !

يذكر انه سيقام تكريم شعبي يستند إلى " العلاقة القوية التي كان جاك شيراك يقيمها مع الفرنسيين " بعد ظهر اليوم الأحد في صرح " الأنفاليد " وسط العاصمة الفرنسية حيث سيكون بإمكان الفرنسيين إلقاء نظرة أخيرة على النعش.

وداعا يا صديق العرب الوفي الذي نصر قضية فلسطين ووقف مع رئيسها وشعبها ورفض العدوان على العراق الشقيق ووقف مواقف رجولة وبطولة خالدة ستبقى تذكرها الأجيال ويرددها التاريخ.

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات