قم للمعلم ..


يدخل إضراب المعلمين يومه الثالث ضمن أجواء مشحونة متوترة تلقي بظلالها على الوطن بمجمله، فالقضية تمس كل بيت أردني، والحلول التي يمكن أن تتحملها الحكومة في هذا الظرف الإقتصادي الصعب غير مقبولة تماماً من الطرف الآخر، وأطراف كثيرة تركب الموجة، فخصوم الحكومة التقليديون ومن لهم ثارات قديمة معها .... وجدوها فرصة سانحة لتسديد الحساب بذم الحكومة والنيل منها والتغني بتضحيات المعلمين المأكولة المذمومة ليس حباً بمعاوية وإنما كراهية لعلي، ونقابات مهنية وازنة وعلى رأسها الأطباء والمهندسين أعلنت تضامنها ودعمها لنقابة المعلمين في البداية، ثم حذت حذوها لاحقاً للمطالبة بحقوق "مسلوبة" لمنتسبيها وهددت بالتصعيد في حال عدم تحققها، ملحقة بذلك قصداً أو عن غير قصد الضرر بقضية المعلمين لأن الإعلان عن مطالب هذه النقابات في هذا الوقت تحديداً يعطي الحكومة مبرراً إضافياً لعدم الإستجابة لمطالب المعلمين .... أما الكٌتاب وأصحاب المنابر الذين دأبوا منذ سنوات على مهاجمة الحكومة أصابت ام أخطأت فقد وجدوا في هذه المواجهة مادة خصبة وغنية لمقالات وفيديوهات تزيد من شعبيتهم تحث المعلمين على الثبات لإنتزاع الحقوق فما النصر إلا صبر ساعة ....

أما أهالي الطلبة فلا تعنيهم هذه المساجلات من قريب أو بعيد وهم المتضرر الأكبر من هذه المواجهة وقد كانوا يتأهبون للمباشرة بعام دراسي جديد حشدوا له ما تيسر لهم من موارد لشراء كتب ودفاتر ومستلزمات مختلفة، وقد صدموا وهم يجدون أبناءهم يعودون إلى الشوارع مجدداً بعد عطلة الصيف الطويلة، وقد إتخذتهم النقابة رهائن لتحقيق مكاسب مهنية قد تكون محقة وقد لا تكون، ضاربة عرض الحائط بكل ما رسخ في الوعي الجمعي على مدى عقود طويلة، عن رسالة المعلم السامية وعن الشمعة التي تحترق لتنير الدروب للآخرين، وها هي أصواتهم وقد تجاوزوا صدمة اليوم الأول للإضراب قد بدت تعلو تدريجياً مؤكدين حق أبنائهم في التعليم، ورافضين قيام المعلمين بربط ذلك بخلافاتهم مع الحكومة، كان ذلك في البداية إلا أن إستمرار الإضراب قد جعل هذه الأصوات ترتفع تدريجياً ولا تكتفي برفض الإضراب فقط، وإنما تتجه أيضاً لتفنيد مطالب المعلمين والرد عليها، من خلال الإنتقاد الحاد لمستوى مخرجات العملية التعليمية برمتها الذي يشكل المعلم اللاعب الرئيسي فيها، مما يضطر الأهالي إلى اللجوء إلى الدروس الخصوصية التي تكلفهم غالياً والتي يقوم المعلمون أنفسهم بإعطائها خارج جدران المدرسة بأسعار باهظة تصل أحياناً إلى ثلاثين ديناراً للحصة الواحدة، في حين أن فئة المعلمين هم أقل موظفي الحكومة دواماً مما يعطيهم المجال لممارسة أعمال ونشاطات أخرى تدر عليهم مداخيل إضافية ....

يعول كل من طرفي النزاع الحكومة والنقابة على إستمالة الرأي العام لجانبه، حيث أن الفائز بذلك سيكتسب دعماً كبيراً لشرعية مواقفه ومبرراته، قد تساعده في كسب الجولة لصالحه، ويرى كثيرون إن إطالة أمد الإضراب لن يكون في صالح المعلمين ليس فقط لأن معارضة أهالي الطلبة تنشط وتتزايد بمرور الوقت، بل لأن أصواتاً أخرى بدأت تعلو مفادها أن قطاعات واسعة من موظفي القطاع العام وعلى رأسهم منتسبي القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والذين لا تزيد رواتبهم عن رواتب المعلمين هم أحق بزيادة الرواتب والعلاوات فظروف عملهم أقسى وأشد ولا احد يمكنه المزاودة على تضحياتهم ونبل رسالتهم فشتان ما بين من يبذل وقته وجهده في خدمة الوطن.... وما بين من يبذل ليس وقته وجهده فقط وإنما دمه وروحه أيضاً.

إن إثارة مطالب المعلمين في هذا الوقت العصيب بالذات الذي يعاني منه الوطن وليس الحكومة فقط من ظروف إقتصادية بالغة السوء، يفقد هذه المطالب أية شرعية او مسوغات، فالخزينة خاوية "وإنتزاع الحقوق" يعني مزيداً من العجز والغرق في الديون، مما قد يؤدي إلى غرق مركب الوطن كاملاً بما في ذلك المعلمين أنفسهم، لا يحل مشكلة تدني رواتب المعلمين وفئات كثيرة من موظفي القطاع العام إلا عملية شاملة لإعادة هيكلة الرواتب، فلا يعقل أن يتقاضى موظفو وزارات ومؤسسات معينة مكافآت تضاف على رواتبهم تفوق إجمالي رواتب نظراء لهم في مؤسسات ودوائر أخرى، وهذه عملية وإن كانت ملحة وضرورية ألا أنه يتعذر تنفيذها بشكل فوري وتحتاج الكثير من الوقت.

ليس من المعدل ولا المنطق أن يطالب المعلمون بزيادات إستثنائية على رواتبهم في الوقت الذي يعاني فيه الآلاف من خريجي الجامعات من البطالة، وهم مستعدون للعمل برواتب تقل كثيراً عن رواتب المعلمين الحالية، كذلك ليس من العدل أيضا زيادة رواتب المعلمين بشكل إجمالي دون ربط ذلك بمستوى الاداء في الوقت الذي يشكو الجميع فيه من تدني مستوى التعليم.

لو قدر للمرحوم أحمد شوقي العودة للحياة مجدد، وإضطلع على الواقع التعليمي في بلدنا وما يطالب به المعلمون حالياً وقد أغلقوا الصفوف في وجه تلاميذهم، لتردد كثيرا قبل أن ينشد "قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات