الشاعر والسياسي (مصطفى وهبي) التل (عرار)


الشاعر الأردني الوطني (مصطفى وهبي) صالح مصطفى التل، أحد أشهر شعراء الجزيرة العربية، وبلاد الشام، والدولة العثمانية في نهايات حكمها الذي امتد نحو أربعمائة عام، شاعر عربي أردني أصيل مهووس في حب الأردن، وقد وصل عشقه للوطن أن شبهه بجنة الله على الأرض. 

وصف عرار الأردن بكل تفاصيله: سهوله، ووديانه، وجباله، وأنهاره، وينابيعه، وأشجاره، ومدنه وقراه، تغنى بكل شيء، وتكاد لا تمر قصيدة أو بيتاً من الشعر لم يذكر فيه شيئاً عن الأردن؛ تحدث عن السلط، وعن عمان، وانطلق من وادي الشتا الى وادي رم فخاطب الصحراء، وجبالها الصخرية، وقبائلها الممتدة في عمق البادية، وعاد الى إربد وعجلون ووادي اليابس ليؤكد أنه ليس بوادي يابس بل وادٍ ريان. 

عرار شاعر لم تشهد البلاد مثقفاً شاعراً مثله، ليس فقط في عملية نظم الشعر، ذلك أمر هين يمكن لكل ناظم للشعر أن يكتب ويتفلسف شعراً أو نثراً، عرار كان مدرسة في كل شيء، مدرسة في الوطنية والإنتماء للوطن، مدرسة في الإنسانية خلال علاقته بالنور، مدرسة تصور كل تفاصيل الأردن من شماله الى جنوبه، وكأنه يحمل خارطة تسجل كل حفنة تراب، وبصمة حافر من حوافر خيول العز والشرف والبطولة، وقلم أردني سطر تاريخ الأردن بالحبر والدماء. 

عندما ولد (مصطفى وهبي) التل في العام الأخير من القرن التاسع عشر، كانت المنطقة العربية تتهيأ للاستقلال عن الدولة العثمانية التي حكمت منذ العام (1512)، ولغاية عام (1924)، درس عرار الإبتدائية في المدرسة الصالحية التي أسسها والده (صالح أفندي)، وسافر بعد الإنتهاء من المراحل التعليمية الأولى الى مدرسة عنبر في دمشق، وكانت تُعد بمثابة جامعة في ذلك الوقت، وتخرج فيها بعد معاناة كبيرة بسبب المظاهرات، والاعتصامات، وتحريض الطلاب على الثورة ضد الحكم التركي. 

عمل الشاعر (مصطفى وهبي) التل في حقل التعليم ولم يتجاوز السابعة عشر، وأكمل دراسة القانون ولم يتجاوز من العمر ثلاثون عاماً، حياته متقلبة بين خمر وصحو، بين وظيفة وعزلة، وحبس واعتقال، بين منصب رفيع وبين نفي بعيداً عن الأهل والأحبة والوطن. 

عاش عرار حياته ولم يترك يوماً دون أن يستغله في مساعدة الناس تارة، والوقوف الى جانب الفقراء، وطلاب الحاجات، وضد الظلم، ومحاربة الأغنياء، والمرابين الذين وصفهم بأنهم إخوان الشياطين، وقف الى جانب الحق؛ تارات وتارات وتارات. 

تناول الكتاب سيرة عرار (رحمه الله) وتنقلوا بين زوايا، ومفاصل حياته، وأشبعوها بحثاً، واستقصاءً، ولم يقصروا، وعمل كل باحث أو كاتب على تصوير حياة هذا الشاعر العملاق تصويراً فنياً، وأدبياً، وإنسانياً، وصولاً الى التصوير السياسي. 

لقد برع الشاعر في السياسة كما برع في الشعر، والخمر، وعلاقته بالمجتمع، والوظيفة، والمنصب، ولو نظرت الى الجانب السياسي ستجده من الجوانب المهمة التي ميزته منذ نعومة أظافره، في مدرسة عنبر عام (1912) وما تلاها من سنوات وكان لا يتجاوز من العمر ثلاثة عشر عاماً، وكان قطع شوطاً كبيراً جداً بعلاقته مع سمو الأمير عبد الله الأول ملك المملكة الأردنية الهاشمية في بداية عهده الميمون عام (1921) وكان الشاعر عرار حدث السن، لا يتجاوز إثنان وعشرون عاماً، ودارت سجالات شعرية بين الملك المؤسس، وشاعرنا الكبير في كثير من المناسبات الإجتماعية في إربد وعمان. 

تنقل الشاعر الأردني مصطفى التل بين ما توفر من وظائف ساهمت شهاداته العلمية بالحصول عليها، فمن معلم صف عند عمه القائم مقام (علي نيازي) مصطفى التل، حاكم منطقة عربكير التركية الى معلم في اربد، الى مأمور إجراء، ومدعي عام، وقاضي، وحاكم إداري، ومتصرف في الجنوب، الى مسجون أو معتقل أو منفي خارج البلاد. 

عينه الملك عبد الله رئيساً للديوان الملكي، فأميناً خاصاً للملك، وأحد خاصة خاصته، وصديقاً ومشيراً يقدم له النصيحة خالصة لوجه الله، وما يمليه عليه ضميره، وحبه للوطن والمليك، وكان يعاني من هذه التقلبات، والإنقلابات اليومية التي كانت تحدث في حياته وجعلت منه بما تحمله من متناقضات تحدث عنها الملك عبد الله الأول؛ إنساناً له طبيعة ومميزات تختلف عن طبائع البشر وما يتميزون به. 

بقي أن نذكر أن عرار عاش خمسون سنة عاش منها متقلباً بين اللهو والجد، والسياسة والشعر حوالي أربعون سنة من عمره، وكان يعلم أن أجله لا بد وأن يأتي في يوم من الأيام، لذلك أعد العدة وهيأ نفسه لساعة لا مناص منها، وقبل دنو أجله طلب أن يكون قبره في تل إربد تحديداً حتى يبقى مشرفاً على سهول المدينة ووديانها ومرتفعاتها وشوارعها التي وضع بصمته عليها، وكان بينه وبينها علاقة تشبه علاقة الحبيب بحبيبته، والعشيق بعشيقته.. 

هذا هو الشاعر الخالد عرار الذي ظهر نبوغه الفطري، والوراثي في حياته القصيرة، إذ لم تتجاوز من عمر الزمن خمسون عاماً، ويمكننا أن نسجل بعض العلامات الفارقة في مسيرة حياته: 

أولاً: يُعد الشاعر عرار الإبن الأكبر للمحامي والوزير صالح مصطفى التل الذي شيد على حسابه الشخصي مدرسة أطلق عليها: المدرسة الصالحية، ودرس فيها عرار وعدد من أبناء الشمال الذين أصبحوا فيما بعد وزراء ونواب وأعيان ... الخ. 

ثانياً: وصل نبوغه الفكري والعقلي حد الذهاب الى دمشق للدراسة في مدرسة عنبر وهو لم يتجاوز الثالثة عشر من العمر، وعاد بعد عدة سنوات ليعمل معلماً في إربد وكان لا يتجاوز سبعة عشر عاماً. 

ثالثاً: شارك في عملية إحصاء لقرية إربد عام (1914)، وكان عمره خمسة عشر عاماً، وسجل هو والمرحوم سامح حجازي، ومحمد صبحي أبو غنيمة، وعارف أحمد التل عدد سكان القرية حيث بلغ: العدد الكلي ألف وخمسة وستون نسمة أكثر من النصف بقليل من الذكور. 

رابعاً: آخر منصب تسلمه كان رئيساً للديوان الملكي، وكان وقتها بعمر لا يتجاوز الثالثة والثلاثون عاماً، بعدها عاد الى مهنة المحاماة ومارسها فترة طويلة من الوقت مدافعاً عن الفقراء وأبناء وطنه الذين ضاقت بهم الأحوال المعيشية الصعبة بسبب تحكم التجار وبعض الفاسدين. 

خامساً انتقل الشاعر الكبير (مصطفى وهبي) التل الى رحمة الله تعالى عام (1949) وكان لا يتجاوز من العمر خمسون عاماً، مع أن والده المحامي صالح مصطفى التل وصل الى أكثر من مائة وخمسة عشر عاماً، ويُعد من المعمرين في الأردن، أما ولده الأكبر الشهيد وصفي التل فقد استشهد في القاهرة ولم يتجاوز عمره أكثر من خمسون سنة. 

كما قلنا سابقاً؛ أوصى الشاعر الكبير عرار بدفنه في تل إربد، وتم تنفيذ وصيته بعد أن خلد هذه الوصية بعدة أبيات من الشعر، جاءت من خلال قصيدة طويلة وجميلة، تحاكي الواقع، وكانت بعنوان: بقايا ألحان وأشجان. 
يا أردنيات إن أوديت مغترباً فانسجنها بأبي أنتن أكفاني 
وقلن للصحب واروا بعض أعظمه في تل إربد أو في سفح شيحان 
عسى وعلّ به يوما مكحلة تمرّ تتلو عليه حزب قرآن



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات