عيد على جثث الموتى


ما أقسى قلوب هذه الأمة، وما أغلظها، وما أبعدها عن الإنسانية، كأنها قلوب قدت من صخر، بل هي الصخر بعينه، قلوب متحجرة، لم تدخلها الرحمة، ولم تعرف الرحمة إليها طريقاً يوماً ما!

أية قلوب إنسانية هذه التي تدفن عشرات الجثث لأبطال قتلوا أو ماتوا في ليلة واحدة، ثم تنسى وكأن شيئاً لم يكن، والأدهى من ذلك أنها تحتفل بالعيد على جثث هؤلاء، تشتري الملابس الجديدة، وتخبز كعك العيد على موسيقى جنائزهم، ولا تتورع أن تطلق الألعاب النارية ابتهاجاً وجثثهم لم يهال عليها التراب بعد!!

مات شيخ العرب همام ولد يوسف إحمد، وماتت ملكة مصر كليوباترا، وماتت نازلي الملكة المنفية، ومات القعقاع بن عمرو التميمي، وفجع المشاهدون بأنَّ قاتل صافي من أهل كايرو والدها الشاذ جنسياً، وسحب خالد تاجا سيارة اللانسر من أبي جانتي ملك التاكسي، وأصبح سامر المصري عاطلاً بلا عمل بعد أن فقد رفيقة عمره في مشهد مؤثر، وطلقت زهره أزواجها الخمسة، وتم شطب مقتل وجنازة الإمام حسن البنا تجنباً لتداعياتها، ... إلى آخر سلسلة الأحزان والنكبات.

كل هذه الأحداث الكارثية المؤلمة الحزينة لم تمنع من الاحتفال بالعيد، ولبس الجديد، والطخطخة بالبواريد، وأكل الثريد، وذهب شهر من المتابعة المحمومة لعشرات المسلسلات في خبر كان، وتبعثر جهد شهر كامل من القلق والترقب أدراج الرياح، مما يؤكد أننا أمة سرعان ما تنسى، أو فلنقل إننا أمة متبلدة الإحساس، ربما بفعل تتابع المآسي والنكبات وإدمانها والتعود عليها والتطبيع معها!!

كان كثير من المشاهدين يترك صلاة التراويح من أجل مسلسله المفضل، وبعضهم كان يعتذر عن صلة أرحامه لئلا يفوته مسلسله الأثير، وبعضهم يضحي براحته ويكابر على نفسه ليحظى بمشاهدة مسلسله الذي لا مثيل له، بل إن بعضهم كان مستعداً أن يخسر زوجته وأولاده وعمله على أن تفوته حلقة أو بعض حلقة من مسلسله الذي لا يعوض. ولكن تبين أن كل هذه الحمى كانت تمثيلاً وإدعاءً وإلا كيف نفسر نسيان كل هذه الأحزان والقفز عنها بعد سويعات بل بعد دقائق من كل النهايات الحزينة التي أبكت البعض وقرحت جفونهم، وأسهرت فيما سبق لياليهم، وأقلقت نومهم، وأفسدت عليهم سعادتهم؟!

لو افترضنا أن ثلاثين مسلسلاً على الأقل انتهت نهاية حزينة، فإنه يلزمنا ثلاثون يوماً من الحزن والأسى، ولكن لقسوة قلوبنا لم نحزن أكثر من ثلاثين دقيقة، بل أقل من ثلاثين ثانية، وكأن كل هذه المسلسلات كانت حلماً أو كذبة أو كانت سراباً خادعاً؟؟

ومن المرجح –كالعادة- أنَّ بعض المشاهدين سيعيد متابعة مسلسلة المفضل على محطات أخرى بعيداً عن ضغط الصيام وضروراته، وذلك للتثبت من بعض الأحداث والمشاهد، في اجترار ممجوج لمآسينا ونكباتنا، وكأن صفعة واحدة لا تكفي، وفاجعة واحدة لا تفي بالغرض، وصرخة واحدة لا توقظ النيام!!

اختلطت علينا الأمور، فأصبحنا نهرب من واقعنا إلى مسلسلات علها تخفف عنا بعضاً من مرار نتجرعه، وعبث نعيشه، وألم نكابده، لأن حياتنا أكثر درامية ومأساوية من أي مسلسل مهما بلغ من جودة الإخراج وقوة النص وروعة السيناريو وحرفية التصوير وجمال الموسيقى التصويرية ونجومية الممثلين!

الخوف كل الخوف أن نستمرئ العيش في ظلال هذه المسلسلات، فلا نستطيع التمييز بينها وبين حياتنا وواقعنا، ويحدث تشابك وتمازج يهدد حياتنا، ويجعلنا نتخبط دون هدى، فيختلط الحابل والنابل، والتمثيل بالواقع، وتصبح هذه المسلسلات معايير الحكم على بعضنا البعض، وتصبح حجة لتبرير تصرفاتنا. وللأسف هذا ما تهدف إليه بعض المسلسلات، ويخطط له كاتبوها ومن يدعمهم. ولذا فإن وعي المشاهدة مطلوب، والرؤية الناقدة الفاحصة مهمة جداً، وقراءة ما بين السطور ضروري جداً، بل هو أساس الفهم والإدراك للمتلقي، وبغير ذلك فإنه العمى والتيه وتبذير الوقت دون فائدة!!

mosa2x@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات