التسامح الديني


لا إخالُ باحثا يحثُ مطيّة البحث في أعطاف التاريخ ، ثمّ يسبر أغوار التاريخ العربي الإسلامي ، ينكرُ ما للعرب من مواقف ثابتة ناصعةٍ ، تجاه هذه القضية ، ومما لا شك فيه أنّ التاريخ المسطر بين طِيّات الكتب - وبخاصة تلك الكتب التي يُستشهد بصحتها – هو الشاهد العدل ، والماثل لأنظار الشعوب ، مهما تطاول الزمن ، وبَعُدت أحقاب الدهور ، وهو الحَكَمُ العدل الذي لا يفيض إلا ما وعاه وعاؤه .
وما من أمّةٍ ألمّتْ بها الخطوب ، أو دَاهَمَتها الدّهارير ،فطوقتها المخاطر والأزمات ، ثمّ رجعت إلى التاريخ إلا وجدت لها فرجا ومخرجا مما أحاط بها ، يوصلها إلى برّ الأمان والسلامة ، أجل – يا يرعاك الله – إنّ التاريخ فيه عبرة من كان قبلنا ، ونبأ المستقبل لمن بعدنا ، فضلا عن الاحتكام لما بيننا .
وإذا كان ذلك كذلك ، فأنت أمام حقائق ناصعة ، وحُجج دامغة ، شاهدة على ما للعرب المسلمين من التسامح الديني ، الذي يتمتع به المخالف وسط الأمة ، لأنّ هذا التسامح يدل دلالة واضحة على سموّ العقل البشري ، والنظر إلى الأمور من وجوهها المتعددة .
إنّ احترام الأغيار ، واعتبار المخالف إنسانا يحقّ له أن يكون كما أراده خالقه ، متنعما بنعيم الدنيا وخير المجتمع ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، أوجب الواجب ، ومهما بولغ في شأن مخالفته فهي لا تتعدى أن تكون شذوذا عقليا يرجى برؤه .
أيها القارئ الكريم ، إنّ تاريخ حضارتنا العربية سجّل لنا بنور ساطع وضياء لامع ، ما يحقّ لنا أن نفاخر به الدنيا ، فهو منعمٌ بحوادث التسامح الديني ، مملوءٌ بالعطف على المخالف أو على الأغيار .
فهذا الطبري في تاريخه الكبير ، يذكر أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – كتب إلى أهل القدس الأمان الآتي : ( بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم ، سقيمها وبريئها وسائر ملّتها ؛ أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ، ولا ينتقص منها ولا من حيّزِها ، ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يُكرهون على دينهم ، ولا يضارّ أحد منهم ................... )
وفي كتابه إلى عمرو بن العاص ، عامله على مصر ما تقر له الأعين ويشهد بعدالته وإنسانيته ، وما يشهد بعدالة الإسلام دين التسامح والمحبة ، اقرأ يا يرعاك الله ما جاء فيه : ( واعلم يا عمرو أنّ الله يراك ويرى عملك ، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه :" واجعلنا للمتقين إماما " يريد أن يقتدى به ، وإنّ معك أهل ذمّة وعهد ، وقد أوصى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهم ، وأوصى بالقبط فقال : " استوصوا بالقبط خيرا ، فإنّ لهم ذمّة ورحما " وقال صلى الله عليه وسلم : " من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته ، فأنا خصمه يوم القيامة " ،فاحذر يا عمرو أن يكون رسول الله خصما لك فإنه من خاصمه خصمه ، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى تاريخ الطبري وغيرها من الكتب الموثوقة ، ففيها الكفاية والشفاء .
قال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين )
ومما لا شك فيه أنّ الخلفاء والسلاطين والأمراء الذين أتوا من بعدُ ، قد انتهجوا المنهج نفسه ، وسطروا أروع المواقف التي أصبحت نبراسا يستضاء به ، ولذلك يرى الباحث كتب التاريخ طافحة بتلك المواقف والعهود العادلة ، التي كانت تُعطى لأهل الذمة .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، وإنمّا تعداه إلى ما يأخذ المرء بالدهشة والاستغراب ، فقد حظي أهل الذمّة حظوة رفيعة عند خلفائنا وشغلوا مقاما أدبيا عاليا ،إذ تجد الخلفاء يخاطبون علماء أهل الذمة بألفاظ التبجيل والتفخيم والتعظيم ، ما لا يتجرأ على فعله المعاصرون ،إن شئت فارجع إلى كتاب الأعيان لابن خلكان أو غيره من الكتب .
أجل هذا هو التسامح الديني وهذه هي حضارة العرب والمسلمين ، فأين أنتم من ذلك ؟
ومما هو جدير بالانتباه حريّ بالتأمل ، قمين بالوقوف عنده ، ما يناله أهل الذمة في أردن الهاشميين من الحظوة والاحترام والتقدير ، فنحن في أردن الكرامة ، نعيش كأعضاء الجسد الواحد تجمعنا الثوابت ، حتى لو اختلفت مشاربنا وأصولنا ومذاهبنا ، فلا دين يفرقنا ، ولا حدّ يباعدنا ، آيات المحبة ، وطبع الألفة ، ودم العروبة ، وجلدة الأخوة تجمعنا ، وإنسانية الإنسان ديْدننا ، وتاج الشهامة والمهابة والعز والكبرياء شعارنا ، وعرش آل هاشم حاكمنا .
حمى الله الأردن وعاش الملك .



تعليقات القراء

سامية نصر
عن اي تسامح ديني تتحدث ؟

حين انظر الى الدلاي لاما ممثل البوذية ، وارى ابتسامته الساحرة ، وحين استمع الى بعض أحاديثه ، أو حين ارى طيب تعامله مع الآخرين ، اتسائل : لماذا لا نرى هذا في كبار رجال الدين المسلمين ؟
عندما ارى نفس الأمر مع البابا الراحل وكيفية تسامحه وتواضعه مع الناس ، اسأل نفسي السؤال ذاته.
هذان المثلان لممثلي ديانات كبرى يعد اتياعها بمئات الملايين اكثر من المسلمين ، وينتمون الى بلدان أكثر تطورا من بلاد المسلمين ، يقدمان الأمثولة الأجمل لصور التسامح الديني والأنساني .
وعندما استعرض ما أراه في البرامج المتلفزة من رجال الدين من غير المسلمين ، ارى فرقا كبيرا في درجة التسامح الأنساني ، لا يمكن لرجل الدين المسلم أن يبلغه يوما .
تتسم هذه الأمثلة الأنسانية التي تجمع هذين العملاقين بالتالي :

- لم يكفلروا انسانا ولم "يبشروه" بالنار في الآخرة.
- لم يتدخلوا يوما في ايمان او معتقد ، بل تركوا الأمر للخالق.
- لم يؤذوا يوما كاتبا او مثقفا.
- لم يأخذوا يوما كاتبا الى النيابه او المحاكم حتى ولو كتب ضد دينهم .
- لم يتدخلوا قط لمنع كتاب او مقال حتى ولو كان ضد معتقداتهم .
- لم يصدروا في اي وقت فتاوى دينية ضد الآخرين .
- لم يؤذوا احدا في دينه كما يحدث في فتاوى المسلمين تجاه غير المسلم .
- لم يظهروا في الفضائيات والصحف والمجلات لتفسير الأحلام .
- لم يتعاملوا يوما مع الجن بأختلاف جنسياتهم .
- لم يروعوا احدا بفتاوى الدم والقتل.
- لم يتدخلوا في حياة الناس الخاصة .
- لم يتدخلوا في عمل الساسة ولم يجمعوا المال باسم الدين.
- لم يرتقوا يوما منبر كنائسهم او معابدهم لشتم الآخرين .
- لم يداهنوا حكاما لمصالح دنيوية .
- لم يدعوا قط لقتال الآخرين بأسم الدين .
- لم يضعوا اتباعهم فوق الآخرين دينيا او أخلاقيا.
- لم يدعوا قط ان دينهم فقط هو دين الحق وأن الأديان الأخرى باطلة.
- يتجنبون التحليل والتحريم حتى لا يحرجوا الآخرين .
- يزهدون في الدنيا برغم قدراتهم الكبيرة على التلذذ بها .
- يطلبون الغفران لكل نفس بشرية من دون النظر الى دينها.
- لا يجبرون حكوماتهم على تدريس دينهم ونبذ اديان الآخرين .

اتسائل : من اين جائوا بهذا القدر الهائل من التسامح الأنساني تجاه الآخرين المتخلفين عنهم دينيا ؟ وما هي القوة الروحية التي لديهم وتمدهم بهذه الروح الأنسانية التي لا نجد مثيلا لها بالمطلق في ديار الأسلام ؟

(اقتباس من مقال للدكتور احمد البغدادي) .

اين هو التسامح الديني في الأسلام يا دكتور هياجنه ؟
15-09-2010 12:31 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات