تركيا .. تحديات ما بعد صفقة الصواريخ الروسية


رغم كل الضغوط التي مارستها أمريكا على تركيا أصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إتمام صفقة منظومة الصواريخ الروسية طراز " إس 400 " في تحد واضح لواشنطن بعد تأكيد الأتراك بأن " الحصول على المنظومة ضرورة قصوى وليس مجرد خيار مرحلي " وأن الصفقة أصبحت في نظر الحزب الحاكم وبعض أحزاب المعارضة وفئة كبيرة من الشارع قضية قومية عليا تمس الكرامة ومن غير الوارد التراجع عن شرائها بغض النظر عن تهديدات الولايات المتحدة وأن حصول تركيا على المنظومة الروسية سيثبت عمليا بأن تركيا دولة ذات سيادة وأنها تتخذ قرارات تتسم بالاستقلالية وهي فقط من تحدد قرارها فيما يتعلق بتنويع وتلبية أسلحتها واحتياجاتها الدفاعية الجوية أو ماهية التكنولوجيا التي ستشتريها ومن أي جهة .

الرئيس ترامب وفريقه وعلى رأسهم جون بولتون مسؤولين عن هذا المنحنى الذي اتخذته قضية إس 400 بسبب رفض واشنطن بيع منظومة باتريوت الى تركيا رغم أنها الدولة المتقدمة في حلف الأطلسي في مواجهة روسيا في أي حرب محتملة وتمتلك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو العسكري المكون من 29 عضوا كما أنها أحد الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة وذات موقع جغرافي واستراتيجي مهم حيث تتقاسم الحدود مع كل من سوريا والعراق وإيران وأن منظومة إس400 لا تشكل أي خطر أو تهديد على النظام الأمني لحلف للناتو أو على طائرات إف35 الأمريكية سيما أنها منظومة صواريخ دفاعية وليست هجومية .

بعد تعثر الجهود المطولة لشراء أنظمة صواريخ الدفاع الجوية " باتريوت " من الولايات المتحدة وعدم موافقة مجلس النواب الأمريكي على إبرام الصفقة خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وبعدما تأكد لتركيا بان المظلة الأمنية الأميركية ليست حليف مثالي أو حقيقي وان امريكا لم تكن يوما ضامنا للمصالح الأمنية التركية وانطلاقا من مصالحها الوطنية ورغبت منها في رسم محطّة جديدة على خارطة الاصطفافات الإقليمية والدولية في هذه المرحلة الحرجة من الصراع وحيث انه لم يعد من الممكن بالنسبة لأنقرة أن تبقي نفسها رهينة بشكل كامل لمنظومة التسليح الغربية التي يخضع التعاطي معها لقاعدة الهيمنة والابتزاز .

اضطرت للتوجه نحو موسكو حيث أقامت علاقات تعاون في مجال الطاقة وأرست روابط واتفاقيات عسكرية وأمنية وثيقة أفضت عام 2017 إلى توقيع عقد شراء المنظومة الصاروخية الروسية المتطورة وهو ما امريكا رفضته في حينه بشدة واعتبرته إخلال بالسياسة الدفاعية لحلف الناتو وتهديد غير مباشر للأمن القومي الأمريكي ما ينذر بأزمة خطيرة بينهما ربما تؤدي إلى عواقب غير محسوبة في المستقبل وقد استندت تركيا قانونيا في تحركها في هذا المجال لشراء منظومة الصواريخ الروسية الى ان معاهدة حلف شمال الأطلسي لا تتضمن أي بند يقضي بإنهاء عضوية أي بلد في حال شرائه منظومة دفاع من دولة خارج الحلف في ووسط لحظة دقيقة تواجهها تركيا في علاقاتها مع امريكا و أوروبا فضلا عن توقعات بمزيد من التوتر بينهم تسلمت تركيا مؤخرا المعدات الأولى من المنظومة الروسية حيث وصلت بالطائرات الروسية العسكرية العملاقة إلى قاعدة جوية شمال غربي العاصمة أنقرة وستصل باقي الأجزاء على ثلاث دفعات لاحقة جوا وبحرا .

ونتيجة لإصرار حكومة اردوغان على إتمام مشروع الصفقة الروسية عمدت امريكا رسميا الى استبعاد تركيا من برنامج الحصول على طائرات إف35 التي تنتجها شركة لوكهيد مارتن وهي الجيل الأحدث من المقاتلات الأميركية الأكثر تطورا خشية تسريب التفاصيل الفنية لبرنامج إنتاجها إلى روسيا على نحو يفقدها ميزاتها النسبية المتفوقة رغم مساهمة الأتراك في مشاريع البحث العلمي الخاصة بهذه المقاتلة والاتفاق المسبق على بيعهم 100 طائرة من هذا الطراز ومنح الشركات التركية امتياز إنتاج 937 جزءا من قطع غيارها وقد دفعت تركيا إلى الآن 1.4 مليار دولار من ثمنها وتسلمت أربعة طائرات فقط منها وأرسلت عدد من طياريها للتدريب على قيادتها في قاعدة جوية أمريكية بولاية أريزونا وقد تم إيقافهم عن استكمال دورات التدريب لاحقا .

المواجهة المحتملة بين واشنطن وانقره تلوح بفرض عقوبات أمريكية قاسية من شأنها أن تضر بالاقتصاد التركي المصاب بالركود أصلا وإذا ما قامت أمريكا فعلا بفرض أي عقوبات على تركيا لن يستطيع الشارع ولا الحكومة تحملها في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد خاصة وأن الشارع التركي غير معتاد على التعايش مع العقوبات كما الحال في إيران وفي خطوة موازية للتهديدات الأمريكية توعد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن بلاده " ستتخذ خطوات متبادلة " إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات بسبب شراء أنظمة الدفاع الروسية ربما يكون اقلها المطالبة برد الأموال التي استثمرتها تركيا في صناعة الطائرة الحربية وأعلاها منع الوصول الأميركي إلى قاعدة أنجرليك الجوية ومن ثم اللعب على وتر الحرب على الحدود المجاورة اذ يتوقف نجاح سياسة الولايات المتحدة في سوريا جزئيا على تركيا التي قد تهديد بالانضواء تحت مظلة الحلف الروسي الإيراني المسيطر في المنطقة .

على اثر الازمة ارتفع مؤشر التوتر في العلاقات الأمريكية التركية في الوقت الراهن وأصبح الأسوأ في العلاقات بين البلدين منذ عام 2016 عندما رفضت واشنطن طلبا تركيا بتسليم فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب في صيف 2016 إضافة إلى بعض المشكلات الإقليمية المتراكمة وتشهد العلاقة الحالية بين البلدين تراجعاً خطيراً ربما يكون الأول من نوعه في مسار العلاقة بينهما ومن المتوقع أن تشهد تأزماً أكبر ليس فقط فيما يخص عدم تسليم طائرات اف 35 إلى تركيا ولكن أيضا في العديد من مجالات الدفاع الأخرى وقد يمتد التأزم ليطال العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والتقنية وقد تعمد امريكا إلى إحداث تصعيد مكثف لاضطرابات الأسواق المالية التركية التي لا تزال متأثرة سلبياً على خلفية المواجهة الدبلوماسية التي حدثت في العام الماضي كما تفكر الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات على العديد من الشركات التركية في قطاع الدفاع وتفعيل قانون CAATSA الذي يستهدف الشركات التي تمارس أعمالا تجارية في روسيا إضافة الى محاصرة وحظر صفقات بيع وشراء العقارات وفرض قيود على الاستثمارات في السندات الأميركية وتقييد وصول الشركات التركية إلى القطاع المالي الأميركي .

وتتزامن الأزمة القائمة مع تراجع ملحوظ للاقتصاد التركي حيث وصل معدل التضخم لنحو أكثر من 20% بينما تجاوز معدل البطالة حاجز الـ13% إضافة إلى تراجع سعر الليرة مع توقع عدم قدرة السياسات النقدية التركية في التحايل على قيود مجريات الأزمة ومن المرجح أن تتعرض أنقرة لخسائر متعددة اذا ما فرضت العقوبات الأمريكية وربما تتجاوز التعقيدات بين البلدين الخسائر الاقتصادية وتمتد إلى الخسائر والمميزات العسكرية الدفاعية واللوجستية التي تتمتع بها أنقرة بعد أن كان من المقرر أن تكون تركيا المركز الرئيسي لصيانة المقاتلة اف 35 ( ألان يتم البحث عن مقر مركزي جديد للصيانة ) إلى جانب أن الولايات المتحدة تفكر جدياً في نقل قاعدة أنجرليك الجوية إلى خارج تركيا لمنع استخدامها ورقة ضغط من قبل الأتراك وهي القاعدة المحورية التي تشكل مركزًا حيويًا للتحركات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وتمنح أنقرة ميزات عسكرية ولوجيستية عديدة في محيطها الإقليمي وقد تلجأ الحكومة التركية في ظل ماهو متوقع من خناق امريكي مشدد إلى زيادة توطيد العلاقة مع روسيا وتعويض المقاتلة الأمريكية اف 35 بالمقاتلة الروسية سوخوي 57 رغم أنها تعي أن مميزاتها القتالية أقل من نظيرتها الأمريكية التي لديها قدرة فائقة على التخفي من أنظمة الرادار ومن ثم تجازف بنصب منظومات صواريخ "إس400" المضادة للطائرات عند الحدود مع سوريا وقبرص الشمالية مما يزيد في تفاقم المشكلة وتشعبها وتعقيدها .

وبالرغم من كل الأجواء القاتمة والمظلمة ونذر الشؤوم القادمة لا زال الرئيس أردوغان يعول على تغليب لغة الحوار لاحتواء الأزمة وتهدئة التوتر وتجنب فرض عقوبات ستكون مؤلمة ولا زال كذلك يجدد ثقته بأن واشنطن لن تفرض عقوبات على أنقرة على خلفية شرائها منظومة الصواريخ الروسية المثيرة للجدل بعد تطمينات تلقاها من نظيره الأمريكي دونالد ترامب خلال انعقاد قمة مجموعة العشرين الأخيرة متناسيا ان ترامب ليس مخلوق ليس له وعد ولا عهد ولا ذمة نرجو ان يكون الرئيس اردوغان عند حسن ظنه وانه كسب رهان التحدي وفرض السيادة دون ان تخسر تركيا كثيرا في هذه التداعيات الدقيقة والخطرة .

منظومة أس400 تعد أحد أكثر أنظمة صواريخ أرض جو تطوراً في العالم ويبلغ مداها 400 كيلومتر ويمكن لها إسقاط ما يصل إلى 80 هدفً في وقت واحد ويمكن للنظام أن يضرب أهدافًا جوية تتراوح بين طائرات بدون طيار منخفضة إلى طائرات تطير على ارتفاعات مختلفة وصواريخ بعيدة المدى .

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات