إتحاد البلديات 


أما وقد تم تأسيس وزارة الإدارة المحلية، كما توقعنا بمقال سابق، وتسمية معالي المهندس وليد المصري وزيراً لها، فقد تجاوزت الدولة الأردنية مفترق الطرق الذي وضعها عليه المجلس الإقتصادي والإجتماعي (المجلس) الذي أدار وبكفاءة عالية حوارات اللامركزية، حيث خرج المجلس بورقة التشخيص والسينارييوهات المقترحة بنيسان 2019 واضعاً إياها بعهدة حكومة الرزاز لأخذ القرار بشأن الخيارات الثلاثة المطروحة (تعزيز التجربة الحالية بمزيد من الصلاحيات، توسيع اللامركزية لمستوى الحكم المحلي، إتحاد البلديات) فهل أستعجلت الحكومة بالإعلان عن هذه الوزارة لإستشراف المستقبل أم للتكفير عن ذنب التأخر بذلك لعقود. 

أرجو أن يقرأ العامة والمختصون هذه المساهمة بتمعن، وإثراء الحوار من خلال الندوات والحوارات المتلفزة للوصول الى أوسع شريحة ممكنة للتحضر لما هو آت. ولقطع الطريق على أية تحليلات تنطلق من أن ولادة هذه الوزارة مرتبطة بصفقة القرن، فإني أعلن هنا بأن صاحب هذه المساهمة غير مقتنع بإرتباط هذه الصفقة بوزارة الإدارة المحلية، وأنها أردنية بإمتياز وجائت إستجابة ولو متأخرة لحل معضلة البلديات التي تعاني أغلبها من مديونية عالية ودورها خدماتي خجول ومغيبة عن الدور التنموي. 

ومما لا شكل فيه بأن تجربة مجالس المحافظات والمجالس التنفيذية المشكلة بموجب قانون اللامركزية رقم 49 لسنة 2015 لم تؤتي أوكلها ولا يمكن لها أن تستمر بنفس النهج الحالي، فإن على الدولة إستخلاص الدروس من هذه التجربة، ويبدو أنها فعلت من خلال الإعلان عن تأسيس وزارة الإدارة المحلية، حيث برزت من اليوم الأول معضلة الإرث التشريعي المناط بالوزير، والذي يفهم منه أنه المعني بتطبيق قانون البلديات، وهذا لغو تشريعي، لماذا. 
البلدية هي مؤسسة أهلية تتمتع بالشخصية المعنوية ذات إستقلال مالي وإداري تُحدث وتلغى وتعيّن حدود منطقتها ووظائفها وسلطاتها بمقتضى قانون البلديات ساري المفعول، وعليه فإنه ليس للحكومة سلطة فعلية عليها، ولا وجود لشيء إسمه (وزارة البلديات) كما يخطيء البعض، وإنما (وزارة الشؤون البلدية) ووظيفتها إشرافية محدودة. 

لقد ساد الإعتقاد بأن الحكومات هي المسؤولة عن إدارة شؤون البلديات، وهي ليست كذلك، وقد عزز هذا الإعتقاد ضعف البلديات وتعلقها بآمال إنقاذها من التعثر المستمر من خلال الدعم الحكومي، فساهمت بالتقليل من إستقاليتها على مدى عقود من الزمن، إلى أن أصحبت رهينة للوزارة وحان الوقت لأن تتحرر من قيودها من خلال الوزارة الجديدة فكيف ذلك. 

لن نستبق الأحداث ولا نعرف ما الذي يجول بخاطر الوزير المخضرم وليد المصري، ولكني آمل أن يتحرر من تجاربه السابقة كرئيس بلدية كبرى ووزير للشؤون البلدية لكي يشمل الإدارة المحلية النطاق المكاني بين البلديات المتناثرة ضمن حدود المحافظة وحتى لأبعد من ذلك ضمن حدود الإقليم في إطار فكر تخطيطي إقليمي شمولي وهو قادر على ذلك على ما أعتقد. 

لا بد من إعادة الحياة للتخطيط التنموي الإقليمي، مع أن هناك توجه للعولمة وتحرير القيود المكانية ضمن الفضاء السيبرالي، إلا أن جزءاً مهماً من التنمية مرتبط بالمكان Land-based Activities والتي تنقسم لنوعين، الأول محرر القدمين Foot-loose والثاني مقيد القدمين Foot-bound ففي النوع الأول المحرر لا تشكل الموارد اللازمة للإنتاج أولوية ومثال ذلك الصناعات الإلكترونية، أما بالنوع الثاني كالزراعة والتعدين فإنها مرتبطة بالمكان في الأغوار مثلاً وبالبحر الميت لتعدين البوتاس وبالشيدية لتعدين البوتاس، حيث تساهم القطاعات التعدينية بما يقارب 8% والسياحة المرتبطة بالمكان بحوالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة الأردنية الهاشمية. 

ويضاف الى الصناعات المرتبطة بالمكان، جغرافية الأردن المقيدة بمنفذ بحري وحيد وتقسيم طولي (أغوار-مرتفعات شرقية-صحراء) مما يستوجب قولبة الأقاليم التخطيطية وفقاً لذلك، مع علمنا بأن كلمة أقاليم تثير حفيظة البعض ظناً منهم بأنها مرتبطة بمشاريع سياسية لطالما تم نفيها من لدن جلالة الملك والبرلمان والحكومات المتعاقبة. 

عودة لموضوعنا، فإن الظروف أصبحت مواتية للنظر الى جغرافية المملكة من منظور تخطيط مكاني Spatial Planning تحدد فيه مراكز النمو القائمة والمخطط لها، ومحاور التنمية مثال ذلك تنمية وادي عربة على إمتداد قناة البحرين الأحمر-الميت، ولتكف الناطق الرسمي بإسم الحكومة عن النق لإلغاء المشروع، حيث لن يكون هناك وجود للأردن بدون مشروع لتحلية مياه البحر، كل ذلك بهدف إعادة توزيع الإنتشار السكاني بتوازن مرتبط بمحاور التنمية وأقطاب النمو بترابط مباشر مع البلديات كأساس للتنمية الإقتصادية المحلية LED. 

نعم... إن هذا النوع من التخطيط المكاني لا يتعارض مع التوجهات الجديدة التي طرقتها الحكومة بإنشاء وزارة الإقتصاد الرقمي والريادة المتحررة من الأرض ولكنها مرتبطة بالمكان حيث ستنشأ الشركات الريادية بالبلديات وسينعكس أثرها الإقتصادي على تنمية المدن لتصبح ذكية، والطرقات لتصبح آمنة والمواصلات لتصبح سهلة، والمباني لتصبح كافية ومريحة. 

ما نحتاجه في هذه المرحلة هو الدعم للوزارات الجديدة، وما يهمني كمخطط إقليمي وحضري هو التوجه الجديد نحو الإدارة المحلية والتي تختلف جذرياً عن الحكم المحلي الذي إنتهجته دول كثيرة، ولكن الأردن ليس مهيء الآن للحكم المحلي، وإنما الإدارة المحلية التي يلزمها "قانون الإدارة المحلية" يحل مكان قانون البلديات، وينبثق عنه أنظمة مرنة تفسح المجال للتطور بقرار من مجلس الوزراء ضمن الإطار العام للقانون. 

وحبذا لو يتم النظر بعين الإهتمام لتجربة كندا التي أدخلت تجربة إتحاد البلديات من خلال Association of Municipalities of Ontario إتحاد بلديات أونتاريو الذي تأسس في العام 1899 وجرى تطويره حتى الوصول الى الحكم المحلي، وهناك تجارب أخرى بهولندا من خلال VNG وغيرها. 

إتحاد البلديات الأردني ممكن أن يكون الهدف المنشود يوماً ما، ولكن الطريق اليه سيكون من خلال إتحاد بلدية المحافظة فمثلاً (إتحاد بلديات البلقاء) أو (إتحاد بلديات الطفيلة) ...الخ، حيث يشمل نطاق سلطتها حدود المحافظة، وتشكل لاحقاً إتحاداً فيما بينها للوصول إلى الإدارة المحلية التي يتراجع فيها دور الوزارة تدريجياً كلما أشتد عودها وقويّ. 

مما لا شك فيه بأن ما ذكرناه هي رؤية متفائل، ولا يمكن إلا أن نكون كذلك، وإلبديل هو الضعف لا سمح الله في هذا العالم المتنافس لحد الشرذمة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات