أم جبر وشاح



 
من يتابع نشاطات هذه السيّدة، التي لا تكّل ولا تمّل، رغم أنها نيّفت على الثمانين، ربّما تتبادر إلى ذهنه رواية (الأم) لمكسيم غوركي، ويستحضر في ذاكرته شخصيّة (أم بافل) المرأة البسيطة، التي انخرطت في حركة الجماهير، وهي تلاحق نضالات ابنها (بافل)، وعرفت جوهر الصراع بين الاستبداد والعدل، بين الفقراء المطحونين والأغنياء المترفين الفاسدين.

ربّما يتذكّر(الأم الشجاعة) في مسرحيّة برتولت برشت، مجريا مقارنه بين أمهات ينتمين لأمم مختلفة، وعشن في أزمنة متباينة، وجمعتهما الأمومة، والصلابة، والعطاء بلا حدود.

أم جبر وشاح ليست شخصيّة في مسرحيّة، أو رواية، إنها (أم) حقيقيّة، طلعت من المعاناة الفلسطينيّة، وهي عانت صدمة الاقتلاع من قريتها عام 48، ومن وحشية الاحتلال الذي اقترف المجازر في قطاع غزّة عام 55، و56 في خان يونس، ومن همجية الاحتلال عام 67، وعايشت نهوض المقاومة الشعبيّة، وجسارة الفدائيين الذين كانوا يبسطون هيمنتهم على مدن ومخيمات القطاع ليلاً، ولعدّة أعوام، بحيث لا تجرؤ قوّات الاحتلال على التحرّك.

أم جبر زارت ابنها المناضل في سجون الاحتلال، وهو تحدّث معها عن الأسرى العرب المحرومين من زيارات أمهاتهم وذويهم، فالتقطت الرسالة، وحوّلت التعاطف إلى فعل، فدعت عددا من الأمهات لتبنّي الأسرى العرب، الذين ضحّوا بشبابهم لفلسطين، وكانت هي في المقدمّة، فتنقّلت من سجن إلى سجن، ومن معتقل في مدينة ما إلى معتقل في الصحراء، وفاضت أمومةً على من أراد الاحتلال عزلهم وتدميرهم نفسيا.

تبنّت عميد الأسرى العرب سمير القنطار، وواظبت على زيارته، وقبل أن تزور ابنها جبر، إلى أن تنبّهت سلطات الاحتلال إلى دورها فمنعتها من زيارة سمير، ولكن هذا التعسّف لم يحبطها، فقد انتدبت غيرها لتقوم بالمهمة، ولتتفرّغ هي لزيارة أسرى آخرين.

بفضل نشاطات قادتها، ونظّمتها، هي المرأة الأميّة، خريّجة التجربة الحياتيّة الفلسطينيّة، لم يعد الأسرى العرب بدون أمهات، فلكّل منهم أم تتابع أخباره، وتحمل له (الزيارة) من ملابس، وطعام، وحلوى، وسجائر، ورسائل شفوية من أهله في لبنان، وسوريّة، والأردن ...

هذه الأم الصلبة رأيتها، ورآها ملايين العرب، في ريبورتاج بثّته فضائيّة (القدس) ـ وهي فضائيّة وليدة، أرجو أن يبقى خطابها هادئا وغير منحاز إلاّ لفلسطين، وقضايا العرب، بعيدا عن صراعات الطرفين اللذين صارا عبئا على فلسطين ـ في بيتها المتواضع، وهي ترتّب شؤون أسرتها، وهي تتحدّث ببساطة، في مقابلة أجريت معها في (عمّان): أنا قلت لنفسي، لازم أخدم أسرتي، وأرتّب معيشتها اليوميّة، إذا كنت بدّي أخدم أبنائي الأسرى ..وإلاّ سأكون امرأة فاشلة!

فلسفة بسيطة، يجدر بنساء كثيرات، متعلمات، مثقفات، جامعيّات ..أن يتعلمنها، فالنضال ليس وضع رجل على رجل، وتدخين السكائر، وكرع فناجين القهوة، وغيرها، والتحدّث عن الذكوريّة والمجتمع البطرياركي!. الفلسفة البسيطة هذه هي فعل تغيير بدون تنظير، ورفع كليشيهات لا تفلح في تحريك المجتمع خطوةً واحدةً إلى الأمام .

قبل أيام قليلة اخترقت أم جبر الحدود الفلسطينيّة المصريّة، ومن مصر سافرت إلى لبنان، إذ لا بدّ أن ترى ابنها سمير القنطار، وهناك كانت كاميرات المراسلين بانتظارها، فالسيدّة أم جبر وشاح صارت نجمة فضائيات دون أن تقصد، وبدون جهد منها، فهي ليست كالقيادات الفلسطينيّة المدمنة فضائيّات ...
وسمير يعانقها بلهفة وحرارة وحّب ابن لأمّه، التفت إلى الكاميرات والصحفيين والمستقبلين، وقال : عندما أرى وجه أمي أم جبر فكأنني أرى وجه فلسطين!
قبل سنتين التقيتها في بيروت، وكان بصحبتها ابنها جبر الذي قضّى سنوات في الأسر، وقد حضرا لزيارة أسرة سمير القنطار، فقبّلت يدها، وجبينها، ووجدتني أخاطبها بلهفة وتلقائيّة: إحنا بنحبك يمّا!
يما ..هذه الكلمة التي حرمت منها منذ طفولتي المبكّرة، خرجت من داخلي تلقائيّة، ذلك أن وجه أم جبر بتقاطيعه الحنونة، والقويّة، بما يفيض منه، يطمئنك إلى أنك في حضرة الأمومة، يعيدك إلى الثدي الذي أرضعك، يشحنك بشجاعة تمتحها من بئر فيّاض بماء صاف يروي ظمأك في رحلة الهاجرة التي عشتها ...

في الريبورتاج الذي بثّته فضائيّة (القدس) يوم الأربعاء 12 الجاري، رأينا أم جبر، وهي تجمع البيض من قّن الدجاج الذي على سطح البيت المتواضع، فهذه الأم العمليّة تعيد سيرة أمهات شجاعات، نهضن بأعباء الأسر الفلسطينيّة بعد نكبة 48، فتدبرن مّما تنبت الأرض طعاما للبطون الجائعة، وتحملن غياب الأزواج الذين سعوا طلبا للرزق، أو اتخذوا من التسلل إلى قراهم وسيلة لانتزاع بعض الحبوب، والفراش، مّما تركوه في بيوتهم، متحدين الخطر، دافعين حياتهم ثمنا في كثير من الأحيان!

الأم الفلسطينيّة، ألأم في المُلمات، جمعت دوري الأم والأب، وعبرت بالأبناء والبنات، الفراخ الصغيرة، تجربة الجوع، والعري، والبرد وحّر الصيف، وحضّتهم على التعلّم، وزودتهم بأخلاق تحصّنهم، وحقنت أرواحهم بحّب فلسطين، بالأغاني، والتراويد، والحكايات.

أم جبر وشاح هي الاسم الحركي لملايين الأمهات الفلسطينيّات، فتكريمها تكريم لهنّ جميعا، لأمهات الشهداء والأسرى والسجينات اللواتي يلدن في الزنازين.
أم جبر وشاح نابت، ومعها تنظيم الأمهات الذي قادته، عن اتحاد المرأة الفلسطينيّة المغيّب في زمن سلطة ( أوسلو)، كبقيّة الاتحادات والمنظمات الشعبيّة!
أم جبر والأمهات معها لا يعرفن شيئا عن منظمات الأن جي أوز، منظمات خدمة عيون الآخر علينا، فهنّ ينتمين لطين الأرض.
أم جبر والأمهات معها هنّ أكثر أهميّة من فصائل فلسطينيّة مقفلة العقول، عاجزة، لأنهن يبتكرن، ويتحدين الحواجز، والعوائق...

لا تدّعي أم جبر، ولا تنتحل لنفسها عظمة النشاط، والإنجازات، فهي نفس صافية، وروح كريمة، وقلب يتّسع لمحبي فلسطين الذين ترى فيهم أبناءً قبل ابنها المناضل، وأفراد أسرتها المضحين.
من لبنان، وبعد أن التقت بابنها سمير القنطار، الذي وعدته دائما بالحريّة، (طارت) إلى الأردن لتلتقي بابنها عميد الأسرى الأردنيين سلطان العجلوني، الذي هو حكاية ملحميّة جديرة بأن تروى للأجيال لتلهمهم...
أم تخطّت الثمانين، تتنقّل برّا، وجوّا، لتلتقي بأبنائها العرب، ولتروي حكايات الأسرى، وما يعانونه.. لأمتهم اللاهية !.
هذه السيّدة روت كيف أنها سمعت بنود ( أوسلو)، فتوجهت مع وفد من الأمهات ـ هي الحريصة على العمل الجماعي ـ الفلسطينيّات إلى مقّر الرئيس (عرفات)، ولتسأله محتّجة غاضبة:
ـ لم نسمع عن الأسرى في اتفاق(أوسلو) يا أبو عمار ..لماذا نستيم الأسرى؟!
عرفات أجابها، كما روت هي بصدق، وبدون مجاملة، أو لف ودوران:
ـ إحنا تركناهم إعرابا عن حسن النوايا!
أم جبر والأمهات معها، بعفوية، بوعي فطري، يعرفن أن ما لايحرر الأسرى والمعتقلين والسجينات، وما لا يعيد الأرض، ليس سلاما، ولذا فإن نضالهن لم يتوقّف قبل السلطة و..بعد أن تكشّف أوسلو عن سوء نوايا، ما كان يحتاج لكّل هذه المعاناة مع عدو كل تجاربنا معه مرّة، والسلام معه مستحيل.
أم جبر تنتقد علنا إهمال السلطة للأسرى، لعائلاتهم.
هي لا تنتمي الى تنظيم، لأنها ومعها الأمهات الشجاعات أكبر من أي تنظيم...
أم جبر وأخواتها يسري حبّهن في شرايين أحبّة فلسطين الأسرى العرب، من تحرر منهم، ومن ينتظر في معتقلات العدو، والعلاقة مزيج من الأمومة والتضحية ... 
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات