أثلام ملغومة بالورد، بنية المجتمع المتقرحة بفعل التقاليد، فأين سيزرع المستقبل أحلامه؟


جراسا -

تقوم رواية أثلام ملغومة بالورد للروائية الفلسطينية صابرين فرعون على تصور وفق رؤية تراجيدية لمشاهد الحياة الاجتماعية المتصدعة أمام رغبة الفرد في المضي نحو مستقبله. العائلة بذرة المجتمع الأولى والحارس الأول لعاداته، هل تحمل بذور فنائها أمام رغبة الانعتاق والتحرر؟

أحمد الحرباوي
ينفتح النص داخل هذا العمل على مشهد مملوء بالحياة والأمل من خلال فعل الكتابة، والكتابة هنا والاستغراق فيها هو الهروب، ليس للمتعة بل طلباً للخلاص، وهذه ظهر جلياً في بنية المعنى في الحوار الذي افتتحه النص بين البطلة وأمها، ليصبح الصمت عتبة التجاوز لكل ما هو راسخ في عقل المجتمع وأفراده الذين لم يفهموا الحياة على حقيقتها بعد. حياة هي بطلة العمل التي تروي الحدث من خلال ضمير المتكلم، واستخدام صيغة الاسترجاع في سرد الأحداث من خلال الإيحاء بكتابة نص، يعني التوثيق ويعني وجود مسافة زمنية بين ما كانته وما أصبحت عليه في زخم معايشتها لمجموعة من الأحداث والمشاكل الاجتماعية التي حاولت الرواية تفكيكها، لتنقل تصور واضح عن حالة التشظي عن قدرة الفرد على التعايش مع النمطية والأفكار التقليدية، وبما أن الرواية حاولت تسليط الضوء على وقائع اجتماعية عايشتها البطلة، تعالوا نرى كيف تبلورت ملامحها وأفكارها وصراعها من البداية حتى الختام..

تناول النص واقع حياة فئة من الأُسر الفلسطينية التقليدية التي تعيش على تخوم المدن، والتي تكون فيها العائلة هي المركزية في كل شيء، وهذا موروث تطور عن نمط الحياة الريفية التي كانت تحياها النسبة الأكبر من عائلات المجتمع الفلسطيني، الذي نشأ واستمر زراعياً.. ملامح النص بينت مدى تغلغل ذلك الموروث حتى مع التطور ونشوء المجتمعات المدنية، وهذا واضح من هول الصدام الذي استمر في التشكل مع الزمن، خاصة بين الأجيال الجديدة ومترسبات ذلك النظام، والصدام لم يكن يعني الرفض المطلق دائماً، بل ظهر يعدة أشكال ومستويات داخل النص، حيث أن البطلة في البداية اعتبرت أن الرضوخ للمفاهيم الاجتماعية يعني التعقل والقبول، وهذا ليس رضوخاً بل كسباً للراحة، حيث ورد في النص المفضي لسياق هذه الجملة أنها قبلت كلام أمها ( تجاوزاً لجدل قد يمتد لساعات دون أن يتغير رأيي، ص8)، والخضوع لا يعني الخنوع، فكان الرفض لكل ما هو قائم أساس تعاطي البطلة مع ما يحيط بها من ظلم.

من خلال النص برزت عدة ملامح للمجتمع الفلسطيني خلقت هذا الصراع، فبنية المجتمع كانت قائمة على فجوتين عميقتين، هما المستقبل والماضي، والعادات وموقف الأجيال الجديدة منها، والصراع على الجسر الذي ينقل بين الضفتين، وهناك عدة قضايا حملها النص وخاصة قضية نضال المرأة نحو التحرر. أما ما سأتناوله من خلال هذا التحليل سينصب في البحث عن أهم ملامح المجتمع التي ساهمت في بلورة الصراع بين الفرد ومحيطه كما ظهر في النص، من خلال ثلاث محاور أساسية وهي:

1- العادات وثقافة الاستهلاك:
والمقصود بالاستهلاك هنا، ثقافة المستهلك باعتبارها العلاقات بين الثقافة الحية والموارد الاجتماعية من جهة، وبين الطرق المفيدة للحياة والموارد التي يعتمدون عليها، وهذا مفهوم متشعب وكبير جداً، لكنه ظهر داخل النص من خلال ارتباطه بتعليم المرأة وعملها وحرياتها، وهذا إشارة لأهم أسباب التشظي، أي ليس إيماناً بقيمة الشيء- حرية المرأة وتعليمها- بل بالمنفعة الناتجه عنها للمجتمع وسلطته الذكورية، ومثال ما ظهر بالنص: (رغم الفقر بعد الانتفاضة الثانية، تمسكوا بتعليم أولادهم على أمل أن يجدوا شاغر توظيف، ص32)، ( تسجل الفتيات في الجامعة من باب المفاخرة بتعليمهن، ص32)، وبلغت ذروة المنفعة في صورة طلب تعويض من قبل الأهل على تعليم الفتاة، باعتبارها مشروع استثماري يجب أن يعطي مردوداً ماديّ: ( من حقهما أن يعوضهما العرسان عن كل ما استثمراه في تعليمهم بالإضافة إلى المهر، ص32).

من أشكال الصراع الأخرى التي نشأت في ظل هذا المحور، هو الحرية، لماذا تعطى ولأجل ماذا؟ خروج المرأة من عملها للدراسة التي كما هو واضح من أجل المكانة الاجتماعية، مما كان له أثر سلبي على العادات نفسها، لأن مفهوم الحرية ترسخ عند المرأة، مما سبب صدام لها مع رغبة المجتمع بالخنوع، مثال ذلك داخل النص: (لم يطقني لأني لا أتوقف عن النقاش والجدال في حقوقنا، واعتبرني قليلة أدب، ص38)، وهذا ولّد اندفاع جديد نحو الانعتاق حتى من صورة الأم التي لم تصبح قدوة في بعض الأشكال: ( هل أملك من الجرأة لأنظر في عينيّ أمي وأقول لها: كفى طاعة عمياء توقفي عن الموت مئات المرات في المرة لأجلنا، ص43)، (طلبت من أمي تقديم شكوى..... لن تتقبل حسمي للأمور... إلى متى سوف تتنكر لواقع أنها امرأة معنفة، ص44)،(شعرت بثقلٍ انزاح عن صدري بمواجهته، ص55).

ومن خلال ما سبق نستطيع أن نسشتف ملامح الصراع التي نشأت، فالمجتمع حاول ترويض المرأة لمصلحته ولسلطته، لكن قوة جذب المستقبل الحر كانت أقوى من الماضي الهش، لأن الدافع في التحرير من بعض القيود لم يكن نابعاً من الاعتراف بقيمة الآخر (المرأة)، بل جاء نتيجة صراع ورفض من العودة للخضوع.

2- قيد العائلة ورغبة الانعتاق:

من أهم المحاور التي يجب التركيز عليها من خلال هذا الصراع الذي حمله النص، هو العائلة وشكلها ودراسة أفقها المستقبلي أمام هذا التصادم الفكري بين الماضي والمستقبل الآتي، فالعائلة التقليدية المتضامنة أصبحت تعاني من انفكاك بسبب انزياح بعض الأجيال الجديدة عن مفاهيمها ومبادئها المجحفة، فهل هذه بذرة انحلالها؟ من الجلي ملاحظة بداية ظهور تيار الفردانية، بعد تطور المفاهيم الإنسانية التي أصبحت مقياساً للإندماج أو للإنفكاك عن تلك المنظومة، (صحوت على معنى العنف الأسري، ص13)، (الإبن الأكبر لسلالةٍ في دمها يسري الظلم والجور بالنساء، ص14)، وظهر في النص أن العائلة قديماً كانت جزءاً من أي صراع بين أفرادها، لكن الجيل الجديد الذي كفر بالعائلة أصبح يهرب نحو خلاص آخر تمثل في القانون، ومن دلالات ذلك داخل النص أن العائلة جزء من الصراع (اصطحبنا خالي لبيت جدي، ص21)، (أبي يرسل لنا أناساً من العائلة كي يعيدونا، ص21)، وفي المقابل كانت الأجيال الجديدة تبحث عن الإنصاف من الظلم الواقع عليها من خلال السلطة المدنية، وهذا إعلان صريح بالكفر بمنظومتها التقليدية: (قصدا الشرطة، حضرت الشرطة للبيت وأخذوا والدي، ص35)، وكان الوالد الذي يرمز للسلطة التقليدية يجاري أولاده بالقانون ليفرض سيطرته عليهم: (توجه أبي لديوان قاضي القضاة الشرعي، فاستصدر مرسوماً يقضي بعدم تزويجي إلا بوجوده، وعُمم على كافة محاكم الضفة الغربية، ص36)، لكن الأهم من ذلك هو بداية ملامح التغيير في المجتمع التي ظهرت في النص والتي حملت بداية انفكاك الذكر نفسه من تلك المنظومة التقليدية، من خلال النص اعتراف الذكر ذو السلطة بدور السلطة المدنية في انصاف أخته، وهذا دليل على ضعف الذكر نفسه داخل إطار العُرف والعائلة ورغبته هو الآخر بالإنسلاخ عنها، وهذه بذور التغيير التي يشهدها المجتمع الفلسطيني حالياً، وهذا أحد الملامح الأخرى لبداية فناء مفهوم العائلة التقليدي.

3-المرأة والإنهيار نحو التوحش:

التوحش داخل النص لم يعطِ دلالة للتمرد على العادات فقط، بل أعطى صورة أخرى للتوحش تكمن في امتلاك السلطة داخل المنظومة التقليدية وممارستها على المرأة من قِبل المرأة، لأن المرأة التي تحصل على السلطة داخل تلك المنظومة تصبح جزءاً منها، وهذه بداية للانهيار الحتمي، فصورة المرأة الخاضعة داخل النص بلور قوتها لتندمج مع مجتمعها من خلال فك أول قيد للمجتمع وهو التعامل معها كسلعة: (تنازلت عن متأخر الطلاق على أن لا ترى وجهه، ص17)، (رفضت الزواج بالمطلق، ص17)، (ضاعفت عملها وتوفير المال، ص33)، مقابل صورة أخرى للمرأة المتوحشة داخل اعتراف سلطة الرجل بها، لأنها امتداد لسلطة العائلة المتوارثة: (لم يثنهن تعليمهم عن تبني الجهل والتوحش، ص19)، (كرهت شيئاً اتصفت به النساء بالمجمل، وهو تعليم الرجال أنهم مصدر قوة البيت، ص23)، وهذا تمثل في صورة الجدة أو العمة وغيرهن ممن تعرض لظلم وورثن السلطة عن موت من خضعن له في بداية حياتهن.

في النهاية ومن أجل الإجابة عن سؤال البداية، عن الأرض التي سيزرع فيها المستقبل بذوره، يمكننا من تتبع الدلالات التي أحالها النص على الواقع، ومن بينة الصراع التي تفتك بالفرد والجماعة من أجل الكينونة وخاصة أمام بروز تيار الحريات الفردية والمجتمع المدني، فنحن أمام حتمية بأن هذا الصراع بين التقاليد وأجيال المستقبل ينذر بانهيار كبير على جميع المستويات بسبب كفر الأجيال بكل ما هو قائم من أجل بناء واقع ومستقبل جديد مفهوم على قيم العدالة والإنسانية، والرواية هنا تعطي دلالة على انهيار العائلة التقليدية بشكل بطيء لكنه متتابع، إذا حملت الأجيال مشعل انعتاقها بإيمانها بالمساواة والمأساة التي نحياها اليوم في صراعنا مع الماضي المتشبث فينا من ستفتح درب الأمل.







تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات