اللامركزية فكرة وتجربة أفرغت من مضمونها


لقد كان مشروع اللامركزية الإدارية والمالية رؤية ملكية إصلاحية وتنموية على مختلف الصعد لتعميق الممارسة الديمقراطية الشعبية وتوسيع قاعدة المشاركة في صنع القرار في المحافظات والقرى والبوادي حيث كان يؤمل ان يصبح المشروع رديف وسند لمجلس الأمة " الأعيان والنواب " من خلال وجود برلمانات مصغرة على شكل مجالس المحافظات لإشراك المواطنين في عملية صنع القرار وتعزيز دورهم في تحديد الأولويات التنموية والخدماتية في مناطقهم وإنتاج حالة تنموية مستدامة في المحافظات والارتقاء بدور مجلس النواب وجعله مجلس تشريعي ورقابي بامتياز لا مجلس خدمات .

في عام 2015 وضع قانون اللامركزية وجرت في العام الماضي الانتخابات اللامركزية بهدف زيادة المشاركة الشعبية في صنع القرار وتحويل المحافظات إلى وحدات تنموية ضمن خطة الإصلاح والتطوير وتفعيل المشاركة الشعبية في صنع القرار وهاهي التجربة تقطع عام وشهرين من عمرها وهي تتعثر في طريق شائك ووعر محاصرة بالإحباط والخذلان ودون تحقيق أي انجاز يذكر لأي مشروع كان ولم يلمس المواطن أي أثر لتلك المجالس وكأننا أمام مجالس افتراضية لا وجود لها في الواقع وهي مجرد ديكورات ديمقراطية تزيد العبء على كاهل الدولة والمواطنين بواقعها المتعثر .

والسؤال الذي يطرح نفسه عند الحديث عن طموح التحوّل إلى اللامركزيّة هل كان يكفي إصدار قانون وإجراء انتخابات لترجمة هذا الطموح والفكرة على أرض الواقع دون أن يسبق ذلك جملة من المقدمات والإصلاحات والتغييرات التي تسهم في خلق بيئة مناسبة تتيح خلق شراكة حقيقية بين مؤسّسات المجتمع المدني والأحزاب السياسيّة وما يتبع ذلك من تفعّيل لدور الشباب لإحداث التغيير المنشود وهل الانتخابات اللامركزية أجريت على عجل وأن القانون كان ولازال معيق أساسي للمشروع وعاجزا نتيجة تداخل صلاحيّات مجالس المحافظات التي يفترض أن تكون منتخبة والمجالس التنفيذيّة التي عيّنتها الحكومة بناء على تنسيب وزير الداخليّة ووفقًا لهذا القانون يبقى الإشراف على الخطط التنمويّة والخدميّة وعلى إعداد الموازنة السنويّة للمحافظة ضمن صلاحيات المحافظ أمّا المجلس التنفيذي المعيّن بالكامل تناط به كافة المهمات الفعلية المتعلقة برسم السياسات والخطط التنموية ووضع مشروع موازنة المحافظة بالمقابل تناط بمجلس المحافظة المنتخب مهمة إقرار مشروعات الخطط وإقرار الموازنة والإطلاع على كيفية تنفيذ الموازنات السنوية لجميع بلديات المحافظة وهكذا فإنه لا يمكن المراهنة على أن القانون يضمن شراكة المواطنين في إعداد الخطط التنفيذيّة عبر ممثّليهم في المجالس المنتخبة وان تداخل الصلاحيات يلغي الفائدة المرجوة من فكرة اللامركزية ويجعل منها نسخة منقحة عن المجالس الاستشارية السابقة مما يثير العديد من علامات الاستفهام حول الحديث المستمر عن الشراكة الشعبيّة الفاعلة في تحديد الأولويّات ورسم مسارات التنمية وبهذا الحال فان مجلس المحافظة لا يملك صنع القرار كما هو حال مجلس النواب أيضا .

وما يحدث حاليا هو نتيجة للتخبط والتسرع من الحكومة الملقية السابقة في إنجاز هذا المشروع وبهذا الشكل وقد لقيت التجربة اهتماما وترويجا كبيرا عند إطلاقها وعندما بدأت عملها اصطدمت بعوائق كثيرة باتت بحاجة للمعالجة العاجلة حتى تكمل طريقها وخلافا لذلك سيحكم عليها بالانهيار والفشل نتيجة عدم الثقة فيها من قبل قواعدها الانتخابية وان مطالب مجالس المحافظات وهمومها كثيرة ومتعددة وان لها رؤيتها الخاصة تجاه تطوير الأداء والعمل بجدية وانفتاح وبما يخدم إغراض التطوير والتمكين للاضطلاع بمسؤولياتها ومهامهما وفق مشروع إصلاحي متكامل و من اجل ذلك لا بد من إحداث تغيير وتعديل على قانون اللامركزية ونقل الصلاحيات من الوزارات للمدراء التنفيذيين بالمحافظات والاستقلال المالي والإداري ومنح الموازنات لكل محافظة من خلال مدير المالية بالمحافظة وفق أسس وقوانين وآليات عمل واضحة ومن المفيد أيضا استحداث وزارة خاصة للإشراف على مجالس المحافظات تحت مسمى وزارة الحكم المحلي أو الإدارة المحلية على غرار وزارة الشؤون البلدية .

وان يكون مجلس المحافظة شريكا مع المجلس التنفيذي في إعداد الخطط وليس إقرارها فقط وان لا تبقى صلاحياته منزوعة الدسم ويجب أن يكون لمجلس المحافظة مكانة اعتبارية عند مراجعة أعضائه للدوائر ذات العلاقة بالخدمات العامة المعنيين بها بالإضافة الى توفير أدوات العمل من كوادر فنية ودعم لوجستي ومباني خاصة بهم حتى تتمكن المجالس من القيام بمهامهما وواجباتها وان تجربة اللامركزية بصورتها الحالية هي تكريس للمركزية والبيروقراطية المقيتة وهي تستجدي رحمة المركزية في العاصمة عمان .

فالمشروع لم يأت بجديد ولم يحدث أي تغيير على الصعيد التنموي وأولويات المواطنين خاصة وانه لا يوجد اي تجاوب حكومي مع مطالب مجالس المحافظات وهنالك قصور متعمد في إنفاذ الفكرة وعدم الجدية بالتعاطي معها والوضع محرج للغاية للمجالس فمشاريع عام 2018 لم تنفذ رغم إقرارها وسيأتي العام القادم ولم ينجز شيء وهو ما سينعكس سلبا على التجربة فإما أن تنقذها الحكومة وتدعم مسيرتها تحو النجاح أو تلغيها لأنها أصبحت تشكل عبئا على الموازنة المتهالكة دون أي فائدة ترجى منها .

وفي الواقع وعلى ضوء انتكاسة التجربة وعدم الاهتمام بها ألا تستوجب الديمقراطيّة المزعومة أن تقوم مجالس المحافظات نفسها بانتخاب الجهة التي يفترض أن تتولّى المهام التنفيذيّة فيها وفقًا لما تعدّه وتقرّره هذه المجالس بدل من استنساخ وزارة داخليّة مصغرة في المحافظات المختلفة ومن هنا يتضح جليا حرص السلطة التنفيذيّة على عدم التنازل عن أيّ من صلاحيّتها للمجالس التي يملك المواطنون حقّ انتخابها ما يعني أنّ هذه السلطة استجابت لضرورة تطبيق اللامركزيّة بعد أن فرّغتها من مبادئ العمل الديمقراطي الصحيح والذي يضمن للناس شراكة حقيقيّة في وضع أي تصوّرات لمستقبل التنمية في مناطقهم .

و في ظل الحاجة الى المراجعة الدقيقة وإعادة تقييم هذه التجربة الوليدة لإنقاذها وتطوير مستقبلها من المفضل عقد مؤتمر وطني عام تدعو إليه الحكومة يحضره أصحاب الشأن والمختصون لغايات تطوير قانون اللامركزية مع وجود خطة عمل واضحة ومعلنة وإبقاء التواصل والتشاور مع المجتمع المحلي وتقديم التدريب والتأهيل اللازم لأعضاء مجالس المحافظات ومن المعلوم إداريا وفنيا إن تحقيق اللامركزية يأخذ وقتا طويلا ويحتاج الى تضافر العديد من الجهود وأهمها توفر الإرادة لدى الحكومة بالبدء بعملية جادة لتحقيق هذه النقلة النوعية كي يتعدى الموضوع مسألة الإجراءات الإدارية البحتة التي تزيد من البيروقراطية المرهقة داخل مؤسسات الدولة فهناك دول عدة استطاعت تجاوز الصعوبات وتمكنت من تحقيق هذا الانتقال ولو على مراحل منها البرازيل والمكسيك ما يعني أن اللامركزية هدف قابل للتحقيق كما أن عوائدها على الاقتصاد الوطني والمحافظات يمكن أن تكون كبيرة مع شعور الناس بأنهم شركاء في صنع القرار المتعلق بهم .

وفي ضوء كل ما سبق من مخاوف ومثالب ومعوقات وأماني وأمال وطموحات ينبغي على بعض أعضاء مجالس المحافظات أن يفهموا الدور المنوط بهم وان يعرفوا جيدا الحقوق والامتيازات التي يمكن أن يحصلوا عليها بعقلانية وروية وقانون بعيدا عن التهويل والتضخيم ودون اللهاث والسعي وراء مطالب شكلية ومكاسب شخصية قد تمنحهم " بريستيج " اجتماعي أسوة بتلك الممنوحة لأعضاء مجلس النواب ورغبتهم ومطالبتهم بالحصول على لقب نائب خدمات وما يستحقه هذا اللقب من امتيازات " نمر حمراء " ومكافآت شهرية متساوية مع مكافآت النواب ومكاتب خاصة بهم وغيرها من الامتيازات التي تخالف القوانين والتشريعات وحتى الدستور كما يؤكد قانونيون فيما لم نسمع لهم خلال عام من الانتخابات ويزيد أي انجاز يذكر أو يستحق الإشادة على أقل تقدير فهل اللامركزية التي تعاني من عدم الاهتمام والتهميش والتي تشتكي مظلمتها واحتياجاتها وتستجدي مطالبها وحقوقها يمكن أن تكون قادرة على خدمة المواطنين وحمل همومهم وتطلعاتهم وتغيير واقعهم نشك في ذلك ولكننا لا نفقد الأمل .

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات