البراءة الضائعة


منذُ بواكير العمر ونحنُ نسمعُ أنّ خشونةَ الحياةِ ، وشظفَ العيشِ يَصنعان فينا الرُّجولة ، وأنَّ منْ ينشأْ على العَوَزِ والفقر ،ِ يكُن أذكى من أقرانه الميسورين وأنبه ، وأنّ قابلَ أيامهِ سيكونُ أكثرَ إشراقًا ونجاحاً ، على عكسِ مَنْ يتربَونَ في بيوتٍ تتوافرُ فيها كلُّ أسبابِ الرَّفاهِ ومتطلباتِ الحياة...
كلُّ هذا الحشوُ في أذهانِنا ليسَ هُوَ إلا تخديراً موروثاً، سبَبُهُ عَجزُنا عن مُطالبتِنا بحِصّتِنا من حياةٍ ، حُرِمَها كثيرٌ منَ النّاسِ على مَذبحِ الخوفِ منَ الرُّعاة، وأكاذيبِ الدُّعاة...
على دُوّارِ الثّقافة ، طفلٌ لم يبلغِ الحاديةَ عشرةَ من عُمرِهِ يدقُّ زجاجَ السَّيارة بإلحاحٍ لأفتحَ لهُ النّافذة ، إنّهُ يتوسّلُ أنْ نبتاعَ منهُ بضاعَتَه ( أزواجٌ من الجرابات النِّسائية)....
كان الوقتُ ظُهراً ، ويبدو أنَّهُ لم يلتَحقْ بمدرستِهِ، أو فرَّ مُبكّراً منها ، كان واضِحاً عليه التَّعبُ والإرهاق ، فرُغمَ حرارةِ الشّمسِ لم يكنْ ذلك يمنعُهُ من مطاردةِ السَّياراتِ الواقفةِ والمتحرّكة .
مثلُ هذا الطّفل ، تُرى كيفَ سينمو معه شعورُهُ نحوَ مجتمعِهِ؟ وأيُّ ثقافةٍ تلك التي سيتشبّعُ بها على الدوّار العابقِ بروائحِ الطّعام؟
وكيف ستكونُ نظرتُه لأقرانِهِ الذينَ يدرسون ويلعبون في مدارسِهم ، ويقضونَ جُلَّ وقتهِم الفارغِ بينَ أيدي هواتِفهم الذّكية ، وألعابِهم المُسليّة، بينما مُعظمُ وقتِهِ يذهبُ في عَرضِ بضاعتِهِ قليلةِ الثَّمن؛ لعلَّهُ يوفِّرُ مبلغًا من المالِ لشراءِ ما تحتاجُهُ أسرتُه .
(الفقرُ ليسَ عيبًا ، أنّه يصنعُ العظماء)
أكذبُ عبارةٍ تَطرقُ مسامِعَنا ، فمثلُ هذا الطفلُ لا يريدُ أن يكونَ عظيماً غداً ، إنَّ كلَّ ما يريدُهُ هُوَ الذَّهابُ إلى مدرستِهِ كلَّ يومٍ في الوقت المحدّد؛ كي لا يعاقبَهُ معلمُهُ أمامَ زملائِه، أو يوبّخَهُ على تقصيرٍ في حلِّ وظائِفِه البيتيّة ، يُريدُ أن يعيشَ طفولَتَهُ ببراءَتِها ، وينعمَ بلحظاتِ مرحٍ ولعبٍ مع أقرانِه وجيرانِه ، يأكلَ البطاطسَ، ويَلعقَ البوظة ، كما يفعلُ الأطفال ، وهو لا يريدُ أنْ يعيشَ في بيتٍ يعلو فيه صُراخُ أبيهِ كلما طلبتْ أمُّهُ شيئًا من متطلباتِ الحياة....
إنّه لا يمانعُ أبداً أن يكونَ فقيرًا عندما يَكْبُرُ ، مُقابلَ أن يعيشَ طُفولةً غيرَ ممسوخة...



تعليقات القراء

علز
أ.خالد انت رائع ومقالاتك اروع
اعان الله كل ذي حاجة
رد بواسطة خالد الدرابسة
أشكر لك ذائقتك الجميلة ، وأسعد الله كل أوقاتك.
20-04-2018 02:11 PM
محمود صايل الزعبي
رائع
20-04-2018 08:11 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات