عندما يتساهل الأردني في "الذمة والضمير"


يعلم وزير المالية الأردني، وكل البيروقراطيين الذين يديرون المعاملات والمصالح للناس والتجار والمواطنين والزوار يوميًا أن بعض الموظفين وهم نفر قليلون، لكن تأثيرهم السيئ كثير، خصوصًا في بعض الدوائر المعنية بالتصدير والاستيراد وتراخيص مزاولة التجارة، يعملون مستشارين بعد الدوام الرسمي عند أصحاب مصالح يتساهلون في مسـألة الذمة والضمير، مقابل الافلات من متطلبات القانون وحقوق الدولة والخزينة.
ليس سرًا او لم يَعُد سرًا على مستوى النقاشات الإدارية الأردنية القول إن موظفًا من الوزن المتوسط او الصغير يستطيع تدبير وتسهيل شؤون حاوية بضاعة مستوردة مثلًا لأحد المحظيين.
ولم يعد سرًا بالمقابل أن كثرة الضرائب والرسوم والغلاء فرضت على من يستورد او يصنع مجاراة واقع الحال واختيار الطريق الأسهل والأسرع وهو تشكيل خلية من الموظفين المستشارين تحدد له أفضل وصفة فنية للإفلات من الضريبة او لمزاولة التجارة بأقل كلفة ممكنة.
يكشف لي أحد رجال الأعمال عن فظائع لا تتحدث عنها الحكومة في هذا المجال حيث رواتب متدنية جدًا وبائسة وتُبقي الموظف العمومي في دائرة الفقر المُدقع هو وأولاده، بينما تتطلب مسؤولياته وواجباته تمرير معاملة لصفقة بعشرات الملايين من الدنانير.
لا أعرف سببًا، خلافًا للوطنية والأخلاق والدين التي سرعان ما تتحول إلى قيم قابلة للتفاوض في بعض المراحل، يدفعني إلى القيام بواجبي المهني والقانوني تمامًا كما هو مكتوب بوازع من الضمير الوطني المسؤول إذا كان راتبي الشخصي لا يشتري خبزا لأولادي في الوقت الذي يربح من أخدمه بمعاملاته الملايين.
يقول الخبراء في مجال تحصيل الضرائب والجمارك والرسوم ورخص المزاولة، إن ثغرات القوانين والأنظمة واللوائح لا يعرفها إطلاقًا إلّا الموظفين الخبراء المباشرين.
وتلك ثغرات تُستغل أيّما استغلال، وتتسرب عبر ضعاف النفوس وهم أقلية، ولكن تأثيرها كبير كما أسلفنا، بحيث يتم إيجاد وصفات بيروقراطية بديلة لتحقيق أرباح أكبر او للإفلات من القانون بكلفة قليلة، وأهمية هذه الوصفات تنحصر في أنها منطلقة أصلا من موظف رقابي وظيفته هي الرقابة ويعرف كل الألاعيب البيروقراطية.
الحكومة في مواجهتها الأخيرة بدلًا من الحرص الفني على رفع كفاءة التحصيل الضريبي ومستحقات الخزينة، لجأت إلى الحل الأسهل، وهو رفع الضريبة على الجميع، الأمر الذي قد يؤدي وفقًا لرأي عميق استمعت إليه، فاجأني إلى المزيد من التهرب من الضريبة لأن هذا التهرب أقل كلفة، خصوصًا مع وجود مهارات فنية تستغل ثغرات في القانون.
ما حصل بهذا الرأي العميق، هو تحصين الفساد والرشوة وزيادة تسعيرتهما، لأن رفع الضرائب سيزيد من التهرب، وبالتالي ستزداد بدائل من يستطيعون الاعتماد على ميكانيزم التهرب، حيث وسطاء ومرتشون صغار تحت عنوان الوساطة والتسهيل والتمرير يلتقطون المراجعين والزبائن خارج الدوائر الرسمية.
لا نستطيع طبعًا، ونرفض التعميم، لأن الحديث عن طبقة من الموظفين فيما الأغلبية صامتة، صابرة تقوم بواجبها من دون أدنى انحراف وبأخلاقيات الفروسية والمسؤولية الوطنية.
عدم التعميم لا يعني أن الفساد الإداري غير موجود لكن الخيار الجذري لا تريد الحكومة أن تلجأ إليه وهو وضع نظام إداري قانوني يستند إلى التحفيز وتحصين طبقة الموظفين المسؤولين عن التجارة والضرائب والجمارك ماليًا هم وعائلاتهم حتى لا تصبح الحاجة هنا هي المبرر لأي سلوك إداري منحرف.
أضم صوتي لمن يعترضون على خطوات نقل موظف هنا او هناك من دون دليل او قرينة، وأصفّق بالوقت نفسه للخيار القاضي بتحصين الموظفين المجتهدين خصوصًا أولئك الذين يتطلب عملهم إدارة معاملات وعمليات قيمتها عشرات وأحيانا مئات الملايين من الدنانير.
هؤلاء ينبغي أن لا يشعروا بالحاجة هم وعائلاتهم، وأن تُخصص لهم دورات تأهيل متقدمة لضبط كل ألاعيب التهرب من مستحقات القانون وتزويدهم بالحصانة الأهلية والفنية بالتوازي مع حصانة مالية واجتماعية تجعلهم يعيشون بكرامة ويستطيعون الرد على ابتزاز القطاع التجاري وضغوطات أصحاب المال.
التأهيل الفني هنا سيؤدي إلى عكس ما تفترضه السلطات البيروقراطية حيث ستزيد واردات الخزينة بالنتيجة لأن الميكانيزم الإداري في هذه الحالة سيطرد من تلقاء نفسه، أية محاولة للالتفاف والتهرب وعلى أساس أن طبقة الموظفين الميدانيين محصنة بالقانون والأهلية الفنية والكرامة الشخصية والعائلية بدلًا من رواتب بائسة لا تكاد تسد الرمق تدفع أصحابها لامتحان إعجازي فوق طاقة الإنسان خصوصًا وهم يتعاملون مع ملفات ومعاملات مالية ضخمة جدا.
من يرِد فعلًا مواجهة التهرب الضريبي عليه أن يبدأ تنميط هذه الأهلية بدلًا من كثرة إطلاق الشعارات واللغو والإشاعات لأن التهرب الضريبي يقتات من مصدرين أولهما هو الفساد الصغير كما يوصف وانتشار الرشوة والوساطة والمحسوبية، وثانيهما وهو الأهم التصعيد غير المبرر في الضريبة الذي يدفع صاحب المال او التجارة للعزف على أوتار المصدر الأول حيث الحاجة في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
تتكرر هنا مشاهد أزمة الأدوات في الإدارة الأردنية التي تساندها اليوم أزمة استعصاء في الذهنية والرغبة في عدم الاصلاح والتطوير الإداري وأزعم أن الحديث الملِكِي المستمر عن تطوير القطاع العام يقصد ضمن دلالاته الكفاءة في الأداء والانصاف في معايير تطبيق القانون وتأهيل الموظفين الذين يقتضي واجبهم حراسة الأنظمة واللوائح وحراسة الخزينة والأهم تأهيلهم بكل معاني التأهيل.
الرشوة تنتشر أفقيًا وسط صغار الموظفين في الأردن.. تلك حقيقة بات الجميع من القمة إلى القاعدة يتحدثون عنها ولا مجال بعد الآن لإنكارها والحرب على هذا النمط من الفساد ينبغي ان تكون جذرية وشمولية وفكرية وثقافية وغير مرتبطة فقط بالتعسف في قرارات النقل وتطبيق القانون.

٭ إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات