الحياة الاجتماعية


بقلم محمد عبد الكريم الطرودي

“أحياناً تحتاج أن تبتعد قليلاً عن ضوضاء المظاهر الخارجية في بعض الأماكن التي تلتزم فيها بطريقة حركتك وكلامك وملابسك في بعض الأحيان”

ولهذا أخترت مقهى بسيط قريب مع صديق أقرب إلى قلبي قبل ثلاث أيام من كتابة هذا المقال، كُنت ذاهباً لأحد المقاهي البسيطة لاحتساء قهوتي المسائية ولنتبادل الحديث من غير كلافة.

فللأسف أصبحنا نحكم على الأشخاص من أشكالهم الخارجية لا على إنجازاتهم التي قدموها للمجتمع عامة ولعائلتهم خاصة.

كان المقهى في وسط قلب العاصمة وكان يحتوي على عدد من المقاعد والتي لا تزيد عن التسع مقاعد مشتركة لكل مقعد يستطيع الجلوس عليه ثلاث أشخاص، دخلت أنا و صديقي و ألقينا التحية على الجموع الحاضرة والجميع رد علينا السلام إلا أحد الحاضرين وبعد التدقيق على ملامحه وجدت بصمة من قسوة الحياة على وجه ذلك الرجل المُسن، تكحل وجهه بالكثير من التجاعيد وتزين ماتبقى من شعره بالشيب الأبيض.

كانت إذني تحاول أن تنصت لصديقي وكانت عيني تهرب لتسرق نظرة في وجه ذلك الرجل، كنت أحاول أن أتمسك بالتركيز لكنه كان يفلت مني كل لحظة، انا في هذه اللحظة ملك لذلك الرجل الذي إستطاع أن يشغل عقلي وتفكيري، وما هي حكايتة المدفونه في أعماق قلبه !

وبعد مُضي خمسة عشر دقيقة وجدت ذلك الرجل يرفع رأسه باتجاه القمر ينظر إليه بابتسامة خجولة.. يتمتم بعض الحروف الغير مفهومة ويغلق عينيه لثواني معدودة وقبل أن يفتحها أقشعر بدني عندما رأيت دمعة صامته يتيمة تقول الكثير نزلت من عينه اليسرى دون آن يشعر به أحد إلا أنا.

برغم من حدة قلمي في بعض الأحيان ولكن أعترف بأن لدي قلب أضعف من قلوب الأطفال الصغار وفي بعض الأحيان أَتَّخِذ قرارات سريعة بقلبي ينتج عنها نتائج عكسية عن ما كان في النية بوقتها ولكن لم أتمالك نفسي وذهبت إليه ولم اجد نفسي إلا و أنا جالسٌ بجوار ذلك الرجل وقمت بالاستفسار عن صحته كـ حيلة مستهلكة لفتح باب الحوار ولمعرفة سره المكنون وربما يكون بحاجة لشخص غريب ليفضفض له من غير أن ينكسر كبرياؤه.

وكان لي ما أريد، حدثني ذلك الرجل المسن عن سبب جلوسه في المقهى في مثل هذا الوقت قائلاً بأن أمنياته كبيرة ويخجل بأن يفصح بها عند باقي البشر في أوقات الصباح فأجبره الواقع بأن يتسلل بكل مساء إلى ذلك المقهى ليفصح إلى السماء بأمنياته وعند كل صباح يعود مطأطئاً رأسه خجلاً من التمنّي.

سكت قليلاً ونزلت دمعة أخرى صاحبها شهقة بكاء “شايب” وقال لي رأيت الذي يبكي وهو يشكي الآن ؟ يبكي مقهوراً على ماضي مضى وعلى فراق المحبين، رحلوا من ثلاث سنين، كنت أضمهم بوسط الروح و العين، أغرتهم مفاتن الحياة بعد أن كبروا وتناسوا من كان يسهر على تعبهم ومن كان يأخذ لقمة العيش من فمه ليلقمها لهم، أبنائي هجروني منذ حين

لملم ما تبقى من كبريائه وذهب عنّي بعيدا وتمنيت أن يستمر حديثنا ولكن في مثل هذه المواقف يعجز اللسان عن الكلام خصوصاً إذا كان الطرف الآخر لا يحتاج منك لأن تواسية، كُل ما يحتاجه أن تسمعه فقط، ضاع كلامي وتفكيري بعد أن رأيت عمق الحزن الذي استوطن هذا الرجل الطيب وعدت إلى صديقي بأفكار متضاربة.

كيف لأبناء لا يعرفون قيمة الوالدين؟ وماهي ردّة فعلهم لو أنهم كانوا بمكاني وشاهدوا هذا الموقف “صدفة” ؟ أجمل نعم الرحمن هم الوالدين كم وكم منزل يفتقد لأحدهم؟ وكيف الحياة تمضي من غير أحد أعمدة المنزل ؟ الأب هو قصة كفاح بطلها شخص يقدم العديد من التنازلات لبناء مستقبل ربما لم تكن تستحقه لولا تضحياته التي قدمها لأجلك، والأم أروع حكاية حُب وإخلاص تزرعها لنا مع كل ابتسامة صباحية وأمل جديد لنبدأ يومنا المليء بالمصاعب والأمنيات وتحقيق الأهداف ، كيف تكون الحياة عندما نفقدهم ؟

مؤمن بأنهم يتمنون لنا أن نعيش بحياة أجمل من حياتهم، وأن نصل بتعليمنا ومناصبنا لأماكن أفضل من أماكنهم ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد بل أكاد أجزم بأنهم الوحيدين من يتمنون لنا هذه الحياة المترفة التي نعيشها.

وأنا أعود بعقلي لكلام ذلك “الشايب” حتى تفاجأت بصوت أبي وهو يوقظني من النوم معلناً بدء يوم جديد وانتهاء حلمي من غير أن أودع ذلك الضيف الذي بعثر حلمي في ذلك اليوم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات