اترك أثرا


ان الاثر المستمر بعد وفاة الإنسان وسيرته الحسنة التي يذكرها الناس بعد رحيله هي نعمة من الله عز وجل، فكم من إنسان عند وفاته لهجت الألسن بالدعاء له ، وبكت العيون على فراقه ، وتسابق الناس في تعداد مآثره ، وعلى النقيض تماما ، كم من إنسان مات ومات ذكره معه !

وعلى كل عاقل منا أن يسأل نفسه بصدق :

ماذا سأترك بعد وفاتي؟؟؟

وما سأبقي من بعد وفاتي من عمل أو كلمة أو موقف ؟؟؟

ماذا ؟ وماذا؟ وماذا

إن مثل هذه الأسئلة يجب أن تكون دافعاً ومحفزاً لنا إلى ترك بصمة لنا بعد مماتنا ...

ومن الأمور التي تجعل لك أثرا بعد وفاتك الصدقة الجارية والعلم النافع والولد الصالح وكذلك حسن الخلق ، ولين المعشر وطيب التعامل مع الناس ، وقضاء حوائجهم ، مبتغيا بذلك وجه الله ، فإن ذلك إضافة إلى كونه من الأعمال الصالحة الحسنة التي يعود أجرها لك فإنه أيضا أثر طيب لك يستمر بعد وفاتك فيذكرك الناس بالخير .

في هذه الأثناء استذكر كلمات للدكتور علي الحمادي حيث قال:

كثيرة أعدادها! تلك الأقدام التي مرَّت في هذه الحياة ثم ارتحلت وانتقلت في الغابرين، فكان من بينها أقدام تلاشت معالِم سيرها فإذا تتبعتها؛ لم تصل لشيء لأنها سارت على غير طريق لمَّا فقدت غايتها والهدف، وهناك أخرى ما زالت بصماتها بارزة ومعالِمها براقة واضحة تُعجِب الناظرين، قد ارتحلت نعم... لكن بقي ذكرها الحسن... لمَّا أبت السير إلا بترك الأثر. "لكل إنسان وجود وأثر... ووجوده لا يُغني عن أثره؛ ولكن أثره يدل على قيمة وجوده" .

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وسخَّر لعباده مع هذه الغاية ما في الكون: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13] .لذلك كانت مهمة الإنسان الأولى كخليفة في الأرض تتمثل في العبودية لله والاستفادة من القوى المسخرة في تحقيقها.

ولهذا يجب على المسلم أن يدرك حقيقة وجوده ومهمته على هذه الدنيا الفانية والتي منها ترك أثره وبصمته في سِجل البنائين.

أفي الأحياء أنت! ما أيسر انطلاق الألسنة بالإجابة على مثل هذا السؤال؛ ولكن إن كان الإنسان حيًا فما علامة وجوده في صفوف الأحياء؟ إن الأكل والشرب والنوم وغيرها من صفات الأحياء ليست برهانًا على الحياة، فالحي لا بُدَّ له من أثر. ليس للحياة معنى أو قيمة إذا ما كان الإنسان قابِعًا في غيابت السكون، وها هو الرافعي الأديب يُترجِم ذلك المعنى بقوله: "إذا لم تزد شيئًا على الحياة كنت زائدًا عليها" (وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي: [2/86]).

وهنا استذكر مقولة الشهيد سيد قطب "عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي وتنتهي بإنتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا أي عندما نعيش لفكرة فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض".

ومن لم يجعل لنفسه أثرًا قبل مماته. كان كما قال الحكيم: "الناس يُولَدون فيعيشون ثم يموتون"، فكان ممن وُلِدَ فعاش ثم مات، هكذا دون أن يُسجِّل عنه التاريخ غير تلك الكلمات.

أما المؤمن الفعَّال الذي يُدرِك قيمة صناعة الحياة؛ فإنه يسعى لأن يترك بصمته فيها: "الفعالية هي أن نستفيد مما يقع تحت أيدينا، وقد سخَّر الله لنا البرَ والبحر والحيوان والنبات وأعطانا الزمان، فالإنسان الفعَّال هو الذي يجعل من الزمن لحظات حية مفيدة، ولذلك يُسأل الإنسان يوم القيامة عن عمره فيما أفناه" (الفاعلية، د. محمد العبدة: ص: [8]).

من أعظم نعم الله على العبد أن يجعل له أثراً طيباً يُحيِي ذِكرَه، ويمد به عمره بدوام حسناته بعد موته، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12].

الأثر الطيب الذي يصنعه الإنسان في مسيرة حياته يوريه معية الله وحفظه. وإذا فتح الله لعبده أبواب رحمته وفقه لعمل له أثر طيب، وبارك الله له فيه وضاعف نفعه وفضله ، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «سبقَ درهمٌ مائةَ ألف درهَم».

إن الإسلام الحنيف يرسخ صناعة الأثر لبناء الحياة والقيام برسالتها ولاستمرار بناءها، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن قامَت الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسِيلَة، فإن استطاعَ ألا تقومَ حتى يغرِسها فليغرِسها».

إن هذا الغرس الذي يغرسه الإنسان وحتى لم يجن في حياته ثمره يُعد أثراً له وللأجيال التي تأتي بعده قال رسولُ الله    – صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن مُسلمٍ يغرِسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة».

ومن عرف أثر صناعة الأثر في الحياة ارتفع في الاجتهاد والتنافس في هذه الحياة الفانية فقال – صلى الله عليه وسلم -: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجرُه وأجرُ من عمِلَ بها بعده من غير أن ينقُص من أجورِهم شيءٌ». المُسلمُ حسنُ الإيمان، صاحبُ السيرة الحسنة هو النموذجُ المُثمِر، حيثما حلَّ نفَع؛ فسلُوكُه قُدوة، وسِيرتُه منارةُ إشعاع.

ولنعلم أن مجالات صناعة الاثر متنوعة وبأشكال متعددة ، لكل فرد منا يجب أن يختار ما يلائمه وما يتوافق مع قدراته ومواهبه كما كان صحابةُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – الذين ترَكُوا أثرًا فاعلًا في شتَّى مجالاتِ الحياةِ؛ في الإصلاح، في القضاء، في الإنفاق، في الجهاد، وفي العلم.

وإن الذين يترُكون أثرًا في الناسِ والحياةِ هم الذين يزرعُون المحبَّةَ والأُلفةَ في القلوب. وفي الحديث: «إذا أحبَّ الله العبدَ نادَى جبريل: إن الله يُحبُّ فُلانًا فأحبِبه، فيُحبُّه جبريلُ، فيُنادِي جبريلُ في أهل السماء: إن الله يُحبُّ فُلانًا فأحِبُّوه، فيُحبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضَعُ له القبولُ في الأرض».

إن الأفكار المستمرة للآثار التي تتركها لك بعد الموت كثيرة ويسيرة ، فقط اتخذ قرارك وابدأ في زيادة رصيدك بعد الموت ، فمن يدري ربما لا تجد أحد يعمل لك ما يثقل ميزانك بعد وفاتك ، وكم نعرف ممن امتلك الأموال وما بنى لله مسجدا أو قدم شيئا ، فترك أمواله لورثته اقتسموها وتركوه لمصيره !


 



تعليقات القراء

احمد الجريري
ابدعت ابو يزن
22-10-2017 08:49 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات