وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ } .
اللمز : ذكر ما يَعُده الذاكر عيباً لأحد مواجهةً فهو المباشرة بالمكروه . فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء ، وإن كان باطلاً فهو وقاحة وكذب ، وكان شائعاً بين العرب في جاهليتهم قال تعالى : { ويل لكلِّ هُمَزة لُمزة } [ الهمزة : 1 ] يعني نفراً من المشركين كان دأبهم لَمز رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرِف منه المواجه به أنه يذمّ أو يتوعد ، أو يتنقص باحتمالات كثيرة ، وهو غير النبز وغير الغِيبة . وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك .
ومعنى { لا تلمزوا أنفسكم } لا يلمز بعضكم بعضاً فَنُزِّلَ البعضُ الملموز نَفْساً للامزه لتقرر معنى الأخوة ، وقد تقدم نظيره عند قوله : { ولا تخرجونَ أنفسكم من دياركم } في سورة البقرة ( 84 ( .
والتنابز : نبز بعضهم بعضاً ، والنبْز بسكون الباء : ذكر النَبَز بتحريك الباء وهو اللقب السوء ، كقولهم : أنف الناقة ، وقُرْقُور ، وبطَة . وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا . قال بعض الفزاريين :
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسَّؤْأةُ اللقب
روي برفع السوأْةُ اللقب فيكون جرياً على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة . ورواه ديوان الحماسة } بنصب السوأةَ على أن الواو واو المعية . وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقباً ملابساً للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سُوء ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن . ولعل ما وقع في «ديوان الحماسة» من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى .
فالمراد ب { الألقاب } في الآية الألقاب المكروهة بقرينة { ولا تنابزوا } . واللقب ما أشعر بخسّة أو شرف سواء كان ملقباً به صاحبه أم اخترعه له النابز له .
وقد خصص النهي في الآية ب { الألقاب } التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خُصّ بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق ذو اليدين " ، وقوله لأبي هريرة «يا أبا هِرّ» ، ولُقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت ، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمن بن هرمز ، والأعمش لسليمان من مَهران .
وإنما قال { ولا تلمزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال : { ولا تَنابزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانبين ، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية .
{ بالالقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ } .
تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوّي بأن ما نُهوا عنه فُسوق وظلم ، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدلّ قوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل ، وهذا دال على اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق . وفي الحديث " سباب المسلم فسوق "
ولفظ { الاسم } هنا مطلق على الذكر ، أي التسمية ، كما يقال : طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم . والمعنى : بئس الذِكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وُصِف بالإيمان . وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية .
ومعنى البعديَّة في قوله : { بعد الإيمان } : بعدَ الاتصاف بالإيمان ، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع ، وهذا كقول جميلة بنت أُبيّ حين شكت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه : «لا أعيب على ثابت في دين ولا في خُلق ولكنّي أكره الكفر بعد الإسلام تريد التعريض بخشية الزنا وإني لا أطيقه بغضاً» .
وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم : لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم ، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديداً جداً . فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا . والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة .
وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعاً لحالهم وللتنبيه ، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات