فارئة الفنجان


قارئة الفنجان
مما لا شك به انها من اكثر العادات الاجتماعية انتشارا في المجتمع العربي. فمنذ نعومة اضفاري و اتذكر جدتي في قرية عين ابل في الجنوب اللبناني حينما كنا نزور لبنان انا و اسرتي. فكنا نسكن بالكويت و كنا نقوم بزيارة لبنان من حين لآخر في اواخر عقد السبعينات و اوائل عقد الثمانينات حينما كانت الظروف تسمح...و اتذكر جيدا بأنني كنت اصحو باكرا من النوم بكل يوم بسبب الاجواء الجبلية و الهواء النقي...فما يميز هذه القرية كثافة الاشجار و الطبيعة الجبلية و الاجواء القروية الاصيلة. كانت هنااك سيارات في القرية و لكن لم تكن بالكثافة المزعجة...لذلك كان الهواء نقي جدا...و كثيرا ما كان يأتينا النسيم مشبع بعطور الازهار المزروعة بالبستان بجانب بيتنا...و رويدا رويدا كانت نساء اقربائنا تجتمع عند جدتي في الصباح ليخبزنا الخبز...فيضعنا التنور الاسود فوق الحجار و يضعنا العيدان الخشبية تحت التنور ثم يقمنا بإشعال النار...كانت تقوم احدا السيدات باقتطاع قطعا مستديرة من عجين الخبز و وضعها بجانب سيدة آخرى عند التنور الملتهب من النار...ثم تقوم هذه السيدة بفرد العجين بين يديها ليصبح بحجم رغيف كبير....ثم تقوم بفرده على وسادة دائرة ليأخذ حجمه النهائي ثم تضعه على التنور...و خلال بضعة دقائق ينضج الخبز و يأخذ سماكة حلوة لتنتشر رائحته الشهية بالاجواء و حتى الى داخل المنزل...و بعد بضعة دقائق يكثر الخير على مائدة الصباح... و من الطعام الذي كان يعد الخبز و اللبنة و الزعتر المنزلي و الزيت الذي كان يعصره مسبقا جدي من المزرعة التي يمتلكها...كان لونه و مذاقه لذيذا يفتح الشهية للأكل...والاجبان التي كانت تعد بالمنزل كانت تضع منها جدتي على المائدة...و مازلت اتذكر رائحة الخضار الشهية حينما كنا نقسمها بالسكينلاعداد السلطات...كان منزلنا جنة من الاكل الصحي فكانت الخضار خالية من الاسمدة الكيميائية لذيذة في الفم يتذوق المرء طعمها كما نبتت بالاراضي الخصبة...و ليس كأيامنا الحالية...

كنا نجلس على هذه المائدة الشهية باطباقها الرائعة و نتناول طعام الفطور و نحن سعداء مع جدتي و افراد اسرتي و اخوالي و خالاتي...كنا ناكل و الابتسامة مرسومة على وجوهنا...فمن النادر ان نجتمع مع بعض بسبب غربتنا عن بعض فانا و اسرتي كنا بالكويت حينها و ثلاثة من اخوالي كانوا يسكنون باوروبا...لذلك كان اجتماعنا بمنزل العائلة يبعث بنفسنا البهحة و السرور كثيرا...و بعد الفطور كانت القهوة الصباحية سبب ثاني ليجتمع عشاقها مع بعض...و كانت عادة قراءة الفنجان تنتشر كثيرا في قرية امي حيث أنها شغل النساء الشاغل احيانا...فبعد ان تنتهي النسوة من شرب القهوة التركية يبقى في الفنجان بقايا من البن المغلي...فكانت النسوة تحرص على ان يبقى في قاع الفنجان قليل من سائل القهوة ثم تقوم القارئة بهزه بصورة دائرية قليلا ثم تقوم بقلبه على رأسه. و يوضع بالعادة على طرف الصحن او عليه بالمنتصف لتنساب رواسب القهوة على الجدار الدائري للفنحان من الداخل...و ينتج عن هذه العملية بعد قترة رسومات عفوية يتركها البن و هو ينساب داخل الفنجان...و هذا ما تقوم القارئة بقرائته بعد ان يجف...

تبدع الواتي تمتلكنا الخبرة بقراءة هذه الرموز بجذب انتباه نساء القرية بلا استثناء...فهنالك ما يشير منها الى احداث آنية لاحوال الشخص صاحب الفنحان...و هنالك من الرموز ما يشير الى مستقبل قد يحدث...و هنالك الرموز المفرحة منها و التي تدعو الى الحزن و الاحداث غير الفرحة ايضا...و إن كانت صاحبة الفنجان من دون زواج بعد قد تخبرها القارئة بقدوم الفرحة الى طريقها لترتسم البهجة على وجهها...فهنااك عروس لها؟! و دائما يتكرر نفس السيناريو حيث تنظر صاحبة الفنجان الى السماء و تقول للقارئة من فمك الى باب السماء...و قد تكون هنالك رسمة طائرة على جدار فنحان آخر لتخبر القارئة صاحبته بأن هنالك عودة لغياب لهم علاقة بها...فتؤكد صاحبة الفنجان حينها بانهم ابناء شقيقها ربما او شقيقتها..

و بعد ان تأخذ القارئة جولة على كل فناجين النساء التي تنتظر الاشارات المفرحة و بشائر الخير...او ربما لتنقبض قلوبها لبعض الاشارات الغير سارة...تقوم النسوة و تستأذن لتعود الى منازلها...و تبقى الفناجين الممتلئة ببقايا البن على مائدة الافطار مع اطباق الفطور الفارغة... و تبقى قارئة الفنجان بمفردها...جدتي بإطلالة وجهها التي طغت عليه تجاعيد الجلد و تقدم السن...اشارات نحتها عليها الزمن سنة بعد سنة...تارة على وجهها و تارة على ظهرها الذي كان قد ابتدأ ينحني من التعب و الارهاق...كانت جدتي بارعة جدا بقراءة الفنجان لدرجة ان ما تقرأه للناس كان يحدث بالرغم مما تحذر منه الكهنة في الكنيسة بأنها عادة لا يوافق عليها ديننا...فما بين هذا التحريم و الواقع واد كبير لن يلتقي ابدا...فجدتي انسانة مؤمنة و تصلي الصلاوات في موعدها...و لكن في سنين شبابها و التي اشتهر فيهم جمالها بين بيوت ضيعة عين ابل و عائلاتها الاكابر...فكانت من عائلة اكابر و نفوذ...تعلمت قرأة الفنجان من جميلة غجرية كانت تزور القرية من حين لآخر. و مرة من المرات قرأت لجدتي الفنجان و صدقت بما قرأته لها...فشد انتباه جدتي هذا الامر و تعلمت منها الاشارات و الرموز المختلفة. و تعودة جدتي منذ سنين شبابها قرأة الفنحان لصديقاتها و اقاربها في كل يوم صباحا حالها حال الكثير من النسوة في مجتمعنا الشرقي.. فهنالك كثرون تشدهم هذه العادة لأن فيها سحر معين بما انها تكشف المستقبل....فهنالك فنجان بلمس شفاه الشخص مرارا و تكرارا اثناء عملية شرب القهوة...ثم يقلب رأسا على عقب ثم يتصفى بنه مع قليل من ما تبقى من القهوة بصورة عشوائية ليرسم قدر الشخص على الجدار الدائري للفنجان...

اشتعلت الحرب الاهلية المؤسفة في بيروت و اصبحت زيارة لبنان و قرية عين ابل صعبا جدا. لذا لم ازر قرية عين ابل إلا بعد عشرين سنة على الاقل...فمضت سنين و ايام و عبر بي الزمن من طفولة اتذكرها بايامها الحلوة و المرة...و بطرفة عين اصبحت رجل بالثلاثين من العمر حينما عاودت زيارة جدتي في عين ابل في عام ألفين و اثنين...فوجدت القرية كما هي بجمال طبيعتها الخلابة و طيبة اهلها و اراضيها المزروعة بالاشجار الحرجية و المثمرة منها...و وجدت جدتي كما هي جالسة في منزلها بنفس الطباع و العادات ...رحبت بي بابتسامة حلوة و نظرت لي بعينين أغراقاني بالعطف و الحنان...نظرت فيهما فوجدت نفسي مازلت طفلا صغيرا اجري في مروج القرية الخضراء التي يمتلكها جد امي سعيد مع اصدقائي...تارة اشم رائحة الياسمين المزروع حول شجر اللوز و الخوخ و الليمون...و تارة احاول امساك فراشة خضراء الجناحين جميلة تتنقل بكل رشاقة بين زهور الحقول تداعب وريقاتها التي تفتحت مع لمسة اشعة شمس الصباح الدافئة...وجدت نفسي مازلت طفلا صغيرا في عينين جدتي التي غمرتني بمحبتها و دفئ لقائها بعد طول غياب...

ما اجملك يا ندى لبنان حينما تبرق جمالا و لمعانا و انت تتساقط خجلا من على اوراق الشجر المورد بالحياة هربا من اشعة قرص الشمس المنيرة...في ذات صباح غسلت العصافير الساكنة باعشاشها على غصن الشجر في بستان بيت جدي كسل النوم عنها بقطر الندى و غردت بصوتها الحنون ألحانها الجميلة المعهودة...لاستيقظ من النوم...فكانت الساعة السادسة صباحا. فاغتسلت و ارتديت ثيابي و خرجت الى البستان بجانب البيت لاستمتع بالصباح و منظر الندى العذب الذي اكتست به الاشجار من حولي...يا لجمالها...حبات من اللؤلؤ البراق التي اسقت اوراق الزهر و الشجر من عذوبتها و رطوبتها...فاكملت العصافير تغريدها الرائع فاغمضت عيناي و استمتعت بصوتها الذي كان يصدح بالمكان...فاستنشقت فجأة مع العطور الطبيعية رائحتها مرة آخرى...و يا لأصالة رأئحتها التي فاحت من غلاية القهوة في المطبخ و عبرت اروقة المنزل الى خارج البيت عبر النوافذ المفتوحة و اشعرتني و انا في البستان بوجودها....فامتزجت نسائمها في البستان مع رائح الورد الجميلة لتنتعش حواسي...بن لبناني اصيل...ذهبت و قبلت جبين جدتي و تمنيت لها صباحا جميلا...سكبت لي فنجان و لها فنجان...و تكلمنا مع رشفات القهوة عن سفري الى ببروت...فكنت انوي تقديم طلب توظيف لجامعة كببرة في لبنان يمتلكها اقربائي لادرس اللغة الانجليزية...و كنت مسرور حيث كنت سألتقي بمالكة الجامعة و التي هي قريبتي...و لكن جدتي لم تكن تعلم بنيتي تقديم طلب التوظيف...و كل ما كانت تعلمه بأنني سازور مالكة الجامعة...فاكملت فنجان القهوة بسرعة و وضعته على الطاولة امامي...لاجد جدتي تمسكه و تهزه بيدها ثم تقلبه راسا على عقب...من شب على شيي شاب عليه...و بعض ثلاثة دقائق جف فيها البن امسكت الفنجان و قالت لي...

فنجانك فيه سكة سفر...و هذا يشير الى سفرك الى بيروت..و انظر هذه السيدة التي تجلس على عرش و كانها صاحبة هيبة...هذه بالطبع مالكة الجامعة...ستعطيك اربعة اوراق...عدد الاوراق واضح انظر هنا...حاولت النظر بتمعن و لكن لم استطع تميز الاشارات فقلت لها "جدتي انت اشطر مني بالفنجان..."...اكملت الفنجان و قالت لي الكثير و القليل عن خفايا طريقي و قدري...و فجاة وصلت سيارة الفان التي كانت ستقلني الى بيروت. ودعتها بالقبلات ثم صعدت في الفان. و توجهنا انا و السائق الذي كنت اعرفه الى طريق السفر نحو العاصمة...و اخذنا الحديث الشيق انا و السائق بعيدا عن اجواء الفنجان و دفئ حضن منزل عائلة امي فتحدثنا بشتى الامور و المواضيع المسلية لنخفف على بعض عناء طول طريق السفر الذي كان يبلغ ثلاثة ساعات...و بفضل الله و رعايته وصلت الى الجامعة التي يمتلكها اقربائي...كان حرمها مهيب و كبير اذ تتألف من ثلاثة بنايات كبيرة حسبما اذكر بالاضافة الى العديد من مرافق الطلاب...و قابلت مالكة الجامعة التي استقبلتني خير استقبال. و بعد حديث ودي بيننا ارسلتني الى مديرة شؤون التوظيف التي بدورها اعطتني طلب توظيف لأجيب على اسئلته...و فجأة وقفت في نصف الطابق قبل ان ادخل غرفة من الغرف و اجلس على مقاعد انتظار معدة لاستقبال الضيوف...نظرت الى مجموعة الاوراق بيدي و قمت بعدها...اربعة اوراق بالتمام و الكمال. شعرت بقليل من الصدمة و الورق بين يداي...و لكن سرعان ما اكملت طلب التوظيف و اعدته الى المديرة...و بقي كلام جدتي عالق في ذهني طوال وقتي في بيروت و هي تقرا لي الفنجان في وقت الصباح...


كنت منذ ثلاثة سنين اعمل مستشارا لشركة كبيرة تنظم معرضا سنويا في العاصمة الاردنية. و اذكر تماما بان وجودي كان ضروريا مع باقي موظفين الشركة اثناء فعاليات المعرض الذي كان يقام على طريق المطار...و في يوم من الايام اثناء جولاتي باروقته التي كانت تعج بالزوار و رجال للاعمال و المهتمين شعرت بإرهاق من ساعات الوقوف الطويلة و التجوال المتكرر بين المعروضات و المحلات ، فدخلت غرفة لارتاح فيها بعض الوقت من عناء العمل...و كانت معدة لاستقبال الضيوف المهمين للمعرض. و طلبت من احد الموظفين فنجان من القهوة الوسط...و بعد دقيقة من الزمن احضرها و وضعها امامي بكل لباقة و احترام...و اذكر بانه جلس بحانبي حينها احد زملائي و تحدثنا بامور المعرض و العمل لبضعة دقائق و انا احتسي قهوتي. و لكن سرعان ما قام حينما ناداه مدير الشركة للاستفسار عن امر ما. و نظرت الى فنجاني الذي لم يتبقى به إلا قليل من السائل الاسود..و تذكرت جدتي و ابتسامتها و هي تهز الفنجان لتقلبه...فامسكته بكل نية صافية و قلبته لاترك البن يجف...نظرت لي زميلة عن بعد ثم اقتربت مني و جلست بجانبي. فسألتني عن السبب الذي دفعني لأقلب الفنجان فقلت لها بانها تذكرني بجدتيع فكانت تقرأ لي الفنجان اثناء زيارتي لها بلبنان...عرضت ان تقراءه لي و لكنني اغتذرت منها بسبب ضيق الوقت...ابتسمت لي و استاذنت لتعود الى عملها...اذكر بانني وقتها كنت امارس مهنة كتابت المقالات و الروايات و مازلت الى يومنا هذا...و لطالما كنت منغمسا بكتابة المقالات عن الدراما و السينما المصرية حيث اهواها جدا...و امتلك انا و اسرتي ايضا معهدا كبيرا لتعليم الموسيقة و العزف على الآلات الموسيقية في عمان..فامسكت حينها بفنجاني و انا بغرفة استقبال الزوار المهمين في المعرض و قلبته...ثم نظرت بداخله...فتجمدت الدماء بعروقي من الذي رايته...و شعرت بقدماي تثقل من شدة الصدمة...بل شعرت بانهما تحولا الى قوالب اسمنتية فلم اقوى على حراكهما لبضعة دقائق...كان مرسوما بكل وضوح على جدار الفنجان خمسة اسطر مستقيمة كالسلم الموسيقي تماما و كانت ارقام 012 بكل وضوح مكتوبة على الاسطر...و 012 الذي ظهر لي هو رمز مقدمة ارقام خلوي لشركة من شركات الهواتف المحمولة المصرية على غرار 077 لشركة اورنج و 079 لشركة زين بالاردن... فاليشهد الله بأن الاسطر و الارقام كانت مرسومة و مكتوبة بكل دقة و كانها كتبت بذراع بشري...امسكت الفنجان بعد ان التقط انفاسي و طلبت من الناذل ان يغسله بالصابون...و لم اقلب فنجاني اطلاقا منذ هذه الحادثة...فتيقنت بان هنالك امر مريب وراء هذه العادة التي يستخف بها الكثيرون و يظنون انها للتسلية و لتمضية الوفقت...و أيدت تحريم الديانات السماوية لها فما نظن بانه مسلي و عادة اجتماعية بريئة قد يكون ورائه بالخفية امر مريب و مرعب...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات