حينَما زُرتُ مكّة طالباً يدَها


لا أخجل أنْ أقول أَنِّي نويتُ زيارة بيت الله حينَها على نيّةِ أنْ (يجمعني بِهَا ) ، وألاّ أطلب يدَها من أبيها قَبْلَ أنْ أطلبها من الله ، بمهرٍ معجّله سورة النساء ، و مؤجّله السبع المثاني ، وطرحةٌ أغزلُ حريرها من قميص يوسف ، ومحبسٌ أصبّه من صِواع الملك ، بل يا سيدتي كما خفضتُ جبيني هناك أرفع رأسي هنا ، فلا أكرم من أنْ تطلب يدّ كريمة من يدّ أكرم الأكرمين ، فالمطلوب منه "غنيّ" والمطلوبة "عفيفةٌ" والطالب "عَبْدٌ فقير" أنتِ عِندَه "أغلى ما لا يملُكْ" ، لم أمنحكِ الكثير ، ولكن كان ذلك كلّ ما أملُك ، أمنتُ بأنّ قلوبنا ليستْ بإيدينا ، بل هي هناك بجوار العرش ، يُقلّبُها ملكُ العروش كيفما يشاء ، وأنّ روح الله هي في كـــلّ روحٍ منّا ، وأنّ الله ليس فوقنَا فحسب ، بل معنا أيضاً ؛ لذا حزمتُ أحلامي في حقيبةٍ صغيرة قاصداً بيتَ محمد وإسماعيل وهاجر وأبونا إبراهيم -عليهم صلاة الله وسلامه- .

كانَ فصل العاشقين في منتصفه "إنّه الشتاء" ، موقدةُ الحنين ، ومخيّمُ الأحلام اللاجئة لله ، عدوّ الفقراء وجابي الذكريات ، وزيتُ الذاكرة ، وصالةُ الأمنيّات المُغادرة . كان الغيم الأبيض الجالس في قاعة السماء أشبه بعروسٍ خِلتُها للحظات أنّها هي ، أنجبتْ عرائسُ السماء أطفالها باكراً ، وكان المنخفض القطبيّ أحد أسباب تأجيل الرحلة من عمَّان إلى مكّة ، إلاّ أنّ المرتفع العاطفيّ العاصف في صدري حملني على أجنحته للسفر إلى مكّة لأطلب يدَها من الله ، كانت الساعة تتثائب عِنْدَ الثالثة فجراً في صالة المُغادرين ، إرتديتُ لِبَاس الإحرام ، تلك اللحظة التي يصعب وصفُها ، وكأنّني أستعدُ حينَها للقاء الله ، ثلاث ساعات قبيلَ المغادرة أمضيتُها في الدعاء ، وفي مذاكرة ملامح وجهِهَا والذي كلّما رأيتُ "ماء الحياء" فيه ، سبّحتُ بحمد من جعل من الماء كـــلّ شيء حيّ ، وبعظمة من جعل "وجه القمر" يمشي على وجه الأرض.

لم يكنْ قلبي يحتاج إلى تأشيرة سفر كي يصلَ إلى الله ، فقد سبقني إلى هناك قَبْلَ أكثر من سنةٍ ونصفٍ من لقاءنا الأول . بدأتْ الطائرة بالإقلاع وتوقّف مُحرّك قلبي لثوانٍ ، كيف سأبتعد عن وطنٍ هي فيه ؟! كيف سأمشي في شوارعٍ لم تمرّ منها يوماً ؟! بأيّ قلبٍ أذهب إلى مكّة وقلبي مستوطنٌ في عمَّان ؟! ، بدأتْ أكفّ المدرّج تُفلتُ فراشتها مُحلِّقةً في الهواء ، وعيوني لم تفارقْ عيونَ النافذة باحثةً عن مكان بيتها من على هذه السماء ، لم يستطع زجاج الغيب أنْ يحجب يدَها الصغيرة وهي تلوّح ليّ ، وصلنا نقطة الإحرام وكان شعور أخر أيضاً لا يمكن وصفه ، هنا تحرّر يونس دمعي من ظلمات عيني وبدأتُ بالبكاء ؛ هو الشوق إلى الله ، و إلى أمانينا المعلّقة في خزائن السماء ، كانت كـــلّ دعواتي تبدأ بالرحمة لروح أمي وأبيّ -رحمهما الله- ولتلك الطفلة التي إشتقتها كما أشتاقَ يعقوب ليوسفه .

وصلنا مطار جدّة باكراً ، والجميع وصلَ مكّة قبلي لأَنِّي الوحيد الذي أضعتُ مجموعة المُعتمرين التي كنتُ برفقتها ، لكوني متسلّل على هذه الرحلة نظراً للظروف الجويّة آنذاك ، إستقلّيتُ سيّارة أجرة -يا ليتها كانت سَّيَّارة يوسف حينمَا ألقوه في الجُبِّ- قاصداً بيت الله وكعبته ، سيراً على رؤوس القلب ، بَدأَ الحرمُ المكّيّ بالطلوع شيئاً فشيئاً ، وكأنّه "بدرٌ طلع علينا" ، وقعتْ عيني على الكعبة ؛ فوقعَ الدمعُ من عيني رُطبَاً ثقيلة ، أخبروني بأن هناك دعوة مستجابة عند رؤية الكعبة ، أمي وأبي وهي كانوا من تذكّرتهم حينَها بالدعاء -ونسيتُني- ، المُصلّون يستعدّون لأداء صلاة المغرب ، الحرم مزدّحم بالمصلّين ، ساعدني رجلان لأهربَ خِلسة عن حرَّاس الحرم وأصلّي في "صحن الكعبة" ، وكان الشعور هنا أيضاً لا يمكن وصفه ، الشيخ "سعود الشريم" كان الإمام حينَها ، كبَّرَ للسجود وهنا شعرتُ أكثر أن المسافة بيننا وبين الله هي أقل من متر ونصف "أسجدْ" ، وهنا تقدّمتُ رسميّاً طالباً يدَها ، مُكتسياً أجمل ثياب الرجال ، فما أرخص ربّطات العُنق الفرنسيّة أمامَ لِبَاس الإحرام.

عِنْدَ الصفا والمروة ترأئ ليّ بُكَاء سيدنا إسماعيل -عليه الصلاة والسلام - طفلاً في تلك الصحراء الجرداء ، وهاجرنا تسعى بينَ الجبلين بحثاً عن الماء والزاد لطفلها الرضيع بعدَ أن جفّ لبنُها ، وحينَها أمنتُ أكثر بأنّ اليأس كُفر ، وبأنّ كـــلّ أحلامنا و قلوبنا و حياتنا بينَ كاف الله و نونه ، وأن الصعاب التي لا تهون ؛ ذات يومٍ ستكون .

مرّتْ سريعاً هذه الرحلة ، تماماً ككل أوقات الفرَح التي تسيلُ من بين أصابعِنَا خِلسة ، كقوس قُزح الذي لا يلُقي التحيّة علينا حينَما يُلملمُ ألوانه ويرحل ، وأسعفني الوقت لأسرقَ من هذا القوس لوناً أخضر وأصلي في "الروضة الخضراء" طالباً يدَها في المسجد النبوي في المدينة المنوّرة أيضاً .

إنتهتْ الرحلة إلى أول بيوت الله ، والرحلة إلى الله لن تنتهِ ،
وتركتُ صوتي على سجاجيد الله هناك داعياً : إنّ كنتُ خيراً لها فيسّرني لها ، وَإِنَّ كنتُ شراً لها اصرفني عنها ، وإن كانت خيراً ليّ فيسرها ليّ ، وإن (كانت شرّاً ليّ)

(فإنيّ راضٍ بالقدر خيره وشره ، ويسرّها ليّ)

حمزة الفقهاء



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات