غربة العلمانيين والليبراليين العرب


ثمة نفرٌ من العلمانيين والليبراليين العرب يتقصّد إيذاء الوجدان الشعبي لجمهور المتدينين، بذريعة أنّ الحرية تمنحهم الحق بأن يمارسوا ما يحلو لهم، حتى لو قاد الأمر إلى الارتطام بالعقائد والحساسيات الدينية والروحانية.
ثمة فهم سطحي هنا للحرية يتوخى النموذج الغربي في أعلى ذراه، ويريد إسقاطه على مجتمعات تأسست على الدين حتى تشرّبت حركيتها بطقوسه، ما جعلها كائنات دينية بامتياز. وهذا أمر لا يخلو من بؤس شديد. لكنّ مواجهة ذلك لا تتم بإشهار الكفر، ولا بالتغنّي المجاني بشرب الفودكا، أو الطلب من الدولة الدينية، أو التي تُعلن الإسلام ديناً لها، مثلاً، حماية المفطرين جهاراً نهاراً في «رمضان» وإفساح المجال لهم كي يعبّروا عن إفطارهم، أسوة بالصائمين الذين يمارسون شعائرهم دونما حرج!
ويعبر ضيق الأفق هذا عن الحصار الملحوظ الذي تتعرض له القيم العلمانية والليبرالية، لا لكونها عقيمة الجدوى، أو فقيرة الخيال، بل لأنّ القيّمين عليها يريدون ليّ عنق الواقع، وعدم الخضوع لمبدأ «تبْيئَة» المفاهيم، وإهمال الامتثال للتدرّج الإصلاحي الذي لا يُطيق معه صبراً الكثيرُ من العلمانيين والليبراليين التوّاقين إلى حرق المراحل، ما يؤدي دائماً إلى حرق المراكب، وتحطيم الهالة، والإساءة إلى فريق عريض من العلمانيين الذين يرفعون شعار التنوير من دون إيذاء أفكار الخصوم وتسخيفها.
وما يغيب عن أولئك الذين يأتون ممارسات أقرب إلى «المراهقة الفكرية» أنّ الحق الطبيعي الذي يطالبون الدولة أن تمنحه لأفرادها على قدم المساواة والتكافؤ يتطلّب تقديم تنازلات من جميع الأطراف، ومن بينها الاعتراف بحق المتدين أن يمارس عبادته بحرية مطلقة، كتلك الحرية التي يطلبها غير المتدين، وعلى الدولة أن تستجيب لها، مع الآخذ في الاعتبار طبيعة التشكيلة الاجتماعية والدينية وحدود حساسيتها، خصوصاً إذا كان تطبيق هذه الأفكار في بيئة عربية تتغذى من مرجعية دينية لا يصحّ معها توطين المبادئ الغربية للحرية بحرفيتها، وهنا لا بد من إزاحةٍ ما تفرض على الدولة (وهذا ليس تبريراً) أن تراعي الحساسيات الأكثر غلواً، فلا تصطدم بها، ولا تفسح لآخرين أن يفعلوا ذلك، وهذه معادلة صعبة ومعقدة.
ومن كان مصاباً برهاب الآخر المخالف أو المختلف، أو بعقدة الدولة المتغطرسة، لا بد من أن يؤول إلى فهم ميكانيكي للمعادلة المعقدة السابقة قد يقوده إلى استنتاجات تتصل بتواطؤ الدولة العربية مع الحساسيات الدينية على حساب حساسيات بقية المواطنين ذوي النزعات اللادينية الذين يتهمون الدولة بالانصياع للمتدينين باعتبار أنّ لهم الغلبة والصوت العالي ويتخندقون خلف متاريس المقدّس.
ويــنـسى أولئــــك العــلمانــيــون والليبراليون أنّ معركتهم ليست وحسب مع الأفكار المهترئة القديمة التي تنتج حراكاً يقاوم سنن التطور الحضاري ونواميس العلم والمدنية، فالمعركة في أصلها مع الدولة العربية التي تتصرّف باعتبارها لا دولة، أو ما قبل الدولة، إذ تتوهم أنّ حلفها مع الدين أقلّ بلاءً من حلفها مع العلم، ما يعني أن التجريف المنهجي الذي يتعين أن يقترحه العلماني المتنور يستهدف الدولة والمجتمع معاً، ولكن كيف؟
العلمانية، ونقصد بها هنا (Secularism) تشير إلى «الدنيوية» في مقابل «الدينيّة»، وترمي إلى عـدم هيمنة الدين، أيّ دين، على الدولة، بـاعتـبار أنّ الدين مجموعة من العقائد والأفكار المرتبطة بما هــو علويّ وميتافيزيقيّ، بينما الدولة فتتصل بما هو إداريّ وإجرائيّ وتدبّريّ لشؤون السياسة والاقتصاد والعمران والاجتماع البشري.
بيْد أنّ الواقع يومئ إلى تواطؤات مستمرة تمارسها «الدولة» لتنظيم شؤون الدنيا بأدوات المعرفة الدينية، ما يعني عدم حياد الدولة إزاء الأديان، وهو ما يجعل دولنا أقربَ إلى الدولة الدينية التي، كما يرى عادل ضاهر، «لم تعد تصلح في الزمن الحاضر لإحاطة المشكلات المعقدة للبشر على مختلف الأصعدة، أو تحمل في طيّاتها بذور الانقسام الاجتماعي في مجتمع تعدّدي، أو تتعارض مع إقامة نظام ديموقراطي».
لا يتعيّن على العلماني أو الليبرالي أن يكون، بالضرورة، معادياً للأديان حتى لو لم يؤمن بها، أو أن يظل يتعامل باستعلائية مع سواه من المخالفين أو الخصوم. فالحكمة تستدعي أن يتوجه النقد إلى الدولة، لا لتقويضها بل لإصلاحها وتمكينها من أن تتسع لجميع مواطنيها، وتضمن لهم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة.
العلمانيّ الحقيقي ليس منحلاً، بل هو كائن أخلاقيّ بامتياز يسعى إلى الخير، ولا يدعو أو يوافق على الرذيلة والإسفاف، ولا يسوّق الرداءة والعطالة والفساد. وكم من علمانيّة أو علمانيّ أهدى، ولا يزال، للفكر والفن والثقافة والإبداع أجملَ ما فيه من قلائد.
موسى برهومة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات