رمضان وحوش الحدّادين


طالما استهواني الحديث عن حوش الحدّادين بالسلط وهو الحوش الذي قضيت فيه طفولتي البريئة بين عائلات مسيحيّة من كل الطوائف وعائلات مسلمة سلطيّة ونابلسيّة وأخرى من أهلنا الذين هجّرهم الانجليز واليهود من فلسطين عام ال 48 وكانت عشيرة الحدّادين وهي عشيرة مسيحيّة لها انتشار على مستوى المملكة قد أقامت لها منازل من الحجر الأصفر بالقرب من مقام الخضر عليه السلام الواقع في منتصف الطريق بين قلعة السلط وساحة العين وكما هو معلوم فالخضر هو الرجل الصالح الذي ورد ذكره في سورة الكهف ودار حوار بينه وبين النبي موسى عليه السلام .
ومقام الخضر المجاور لكنيسة الروم الارثوذكس يستقبل كل يوم زوّاره من مسلمين ومسيحيين ويستقبلهم ببشاشته المعهودة الخوري مروان طعامنة راعي طائفة الروم الارثوذكس في السلط وهو شخصيّة دينيّة محترمة بامتياز يجمع على حبّه كل المسلمين وكل المسيحيين نظرا لما يتمتع به من مزايا وخصال حميدة وطالما ترأس الجاهات لعشائرة مسلمة ليطلب عروسا كما حصل مؤخرا مع احد أبناء عشيرة الكلوب المشهود لهم بحسن المعشر والكرامة والمرؤة ... أعود لحوش الحدّادين وذكريات رمضان حين كان الجميع مسلمون ومسيحيون يحتفلون بقدوم رمضان وكان فرن ابو الزين المخبز الوحيد في الحي حيث تتوجه النساء اليه قبيل أذان المغرب يحملّن صواني القطائف التي تفوح منها رائحة السمن البلدي ليتم شواؤها في الفرن .. وكان الأطفل يتسلقون جدران المنازل لسماع صوت مدفع رمضان الذي يدوّي معلنا انقضاء ساعات الصوم .
كانت العائلات المسيحّية تحترم رمضان كل الاحترام فتتوقف السيدات عن تجهيز وجبات الفطور او الغداء تضامنا مع الجيران المسلمين واحتراما لرمضان .
وقبل آذان المغرب بقليل تقوم الجارات بتبادل الصحون المملؤة بالطعام ولذلك قد يكون على مائدة الأسرة عدة اصناف من المأكولات كل صنف احضرته عائلة من البيت المجاور.
رمضان في حوش الحدادين له نكهة خاصة يعرفها من سكان الحوش دار ابو اكرم ( سليمان السويلم ) دار ابو صليبا ( ابراهيم الدخيل ) دار ابو راجي ودار ابو عادل سليمان الفاخوري هذا الدكنجي المشهود له بالأمانة والصدق والدكنجي الرزين جورج الخليل والدكنجي ابو راجي والعم الحاج ابو ريان وابنه ريان ابو فيصل وابوصالح العبد ابو طلال وعمي عبد الله المحمود واخوانه عبد المحمود وعبد الكريم وعبد الفتاح والحاج عبد الله الجغبير واخوانه وابو زيد الجغبير .
كان الجميع يسهرون على ( سطوح المنازل ) يشربون الشاي ويأكلون القطايف وعند صلاة الفجر كان المسلمون يذهبون للمسجد والمسيحيون الى بيوتهم للنوم .
كان الرجال والنساء يجلسون مع بعض ويعتبرون انهم اخوة والاخ لا يمكن ان ينظر الى اخته نظرة سؤ .. انه الشرف الحقيقي والخلق الحميد .
طيلة رمضان وغير رمضان كات العائلات المسلمة والمسيحيّة تعيش حالة من الفرح غير المصطنع وكانت العائلات المسيحيّة تطبخ كل يوم اصنافا من المأكولات خاصة ورق الدوالي والمحاشي والمقلوبة والمنسف لتوزّع منها على الجيران الصائمين في صورة قد يظن القاريء انها خياليّة ولكنها في حوش الحدادين صورة حقيقية بلا رتوش ونحمد الله ان العلاقات بين أبناء جميع هذه العائلات ما تزال على سابق عهدها من الوفاء والمحبّة .
ولم يتوقف الامر عند ها الحد فقبل حلول العيد بأيام كانت النساء تجتمع في احد البيوت في ساعات ما بعد الظهر لعمل الكعك بالعجوة وكانت الجارتان العزيزات نجلا وكرمة الخميس ماهرتات في ذلك وكانتا تساعدان الجارات في تصنيع الكعك ومن ثم يرسل الى فرن ابو الزين من اجل (شويه ) فيما الخيّاطة فضيّة العقلة ام مزيد تقوم ( بتقييف ) الملابس التي غالبا ما تكون للأبناء الكبار ثم تقوم بتصغيرها ليلبسها الاخوة الاصغر سنّا في العيد نظرا للأحوال الماديّة المتواضعة للجميع .
في العيد كان الحوش في حالة من الهرج والفرح ولا يستطيع زائر غريب ان يميّز بين بيت المسلم وبيت المسيحي فالأبواب كلها مشرعة للعيد ورائحة القرفة والبهارات تفوح من الكعك بالعجوة و( يتحالى ) الأطفال بما جمعوه من العيديّات والتي في الغالب لا تزيد عن خمسة او عشرة قروش كلها ( فراطة ) من فئة التعريفة والقرش .. وساظل اذكر بالخير العم ابو ابراهيم ابن سالم اليعقوب حداد الذي كان حنونا جدا ويعطي الاطفال احيانا خمسة قروش وكان بعضنا أحيانا يذهب الى منزله في العيد للحصول منه على العيدّية مع انه مسيحي.
أحببت اليوم أن استذكر بعضا من ذكريات حوش الحدادين واهله الطيبين لأقول للناس هذه هي مدينة السلط التي ما عرفت في تاريخها أي شكل من أشكال التمييز انها المدينة الكبيرة بأهلها من كل المكوّنات و ستظل مدينتي رمزا للحب والكرامة وسيظل الخوري مروان طعامنة وسيظل المرحوم الشيخ أمين الكيلاني من أكبر رموز العيش المشترك وستظل عشائر السلط المسلمة والمسيحيّة متحابة متضامنة وسيظل ابناء القطيشات وبناء الفواخرية وابناء الحدادين والعواملة والخريسات والقما قمة عشائر واحدة متحابة ولن تنصاع لدعوات الجاهليّة ولا للحمقى الذين ينخرون الجسد بافكارهم المسوّسة وسيظل حوش الحدّدين رمزا للتآخي وللعيش المشترك وشاهدي على ذلك يعرفه ابو قيس كمال الفاخوري وحنا وكيلة وهاني فنوش وسمير فاخوري والمرحوم جمال الخضور وابناؤهم وعائلاتهم ..مثلما يعرفه الشاعر محمد عطيات والاديب عيد نسور والمرحوم هاشم العبدالله والمرحوم جميل المصلح والدكتور ابراهيم تادرس وأبو زياد الشعبان والمئات من غيرهم مسلمين ومسيحيين نحترمهم ونجلّهم .. هذا هو حوش الحدادين الذي يقف الأن بما يمتلكه من معاني الحب والانسانية ليقول لكل المتطرفين أتقوا الله في بلدكم وفي أهلكم وعودوا الى منابع دينكم الحق والذي يدعوا الى عبادة الواحد الاحد ويقوم على المحبة ونبذ الكراهيّة والقتل فأين انتم من هذا الدين ؟؟؟ .



تعليقات القراء

ايهاب حداد
دائما استاذنا الحبيب محمود قطيشات يتحفنا بذكرياته عن حوش الحدادين الذي عشنا جزءا بسيطا منه ولكن بحديثه المتواصل يجذرنا بحقائق الحوش بالحب والمحبة فيمن سكنوه وعاشوا فيه
كل الشكر لاستاذنا ومعلمنا الكبير على بساطته بالحديث وصدق مشاعره وتعليمه لنا ولمن يقرا ما هو معنى التاخي والترابط
اكثر الله من امثالكم استاذنا لتكن دائما قدوه للاخرين
29-05-2017 09:03 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات