الأرْدُنُّ بَيْنَ الاسْتِقْلالِ وَالاسْتِغْلالِ


التاريخُ ليسَ أيامًا مَشْحونَةً بالأحْدَاثِ والمَواقِفِ فقطْ ،وإنَّمَا هوَ حَياةٌ حَافِلةٌ بالدروسِ والعِبَرِ؛لذلِكَ عِنْدَمَا ألَّفَ عالِمُنا الفذُّ ابنُ خلدُون تاريخَهُ المُسمَّى بـ " العِبَرِ وديوانِ المُبتدأ والخبرِ " بيَّنَ لنَا أنَّ للتاريخِ فلسفةً لا بدَّ مِنَ التوقفِ عندها ومحاولةِ إدراكِ دلالاتِها.
فتاريخُنا حافلٌ بالدروسِ والعبرِ التِي نحنُ فِي أمسِّ الحاجةِ إليْها الآنَ،ليسَ للوقوفِ عندَها بالتأمُّلِ والتدبرِ ولا للبكاءِ على أطلالِها فِي موقفٍ مشحونٍ بحبِّ الوطنِ ،وإنَّما للاسترشادِ بِها ونحنُ نواجهُ التحدياتِ الماثلةِ والكامنةِ ،خاصةً عندَ الحديثِ عنْ الهويةِ ومستقبلِ الحكمِ .

استقلاليةُ الهويةِ أمرٌ مهمٌ وخطيرٌ ،ينبغِي أنْ نغرِسَها فِي نُفوسِ أبنائِنا وبناتِنا معَ حليبِ أمهاتِهم ،بلْ وقبلَ ذلكَ نَغرِسُها فِي نفوسِ الآباءِ والأمهاتِ لينقلوهَا إلى الأبناءِ.
الاسْتقلالُ يَعنِي : التحررَ والإنعتاقَ ،وهو ضدُّ التبعيَّةِ والاحتلالِ والخنوعِ ،وهو : مفهومٌ لا يمكنُ وصفُه بأقلّ مِنَ النُبْلِ والكرامةِ ! كمَا أنَّ الاستغلالَ يعنِي : الانتهازيَّةَ والنفعيَّة واستنزافَ وسرقةَ المواردِ البشريَّةِ والماديَّةِ ؛دونَ وازعٍ من ضميرٍ أو مخافةٍ من اللهِ ؛ وتقديمِ صحةِ اللصوصِ والسارقينَ – رهطِ شيلوكَ – علَى صحةِ الوطنِ والمواطنِ ؛وجعلِ حقِّ هؤلاءِ اللصوصِ في الحياةِ مقدَّم على حقِّ الوطنِ والمُوَاطِنِ فِي الحَيَاةِ ! وهمْ مَنْ مارسَ النهبَ والسلبَ والَّلهْطَ بأبشعِ صُوَرِهِ ،فالتهَمُوا لقمةَ عيشِ الفقراءِ وجرعةِ مائِهم وطاقةِ طعامِهم ودفئِهم ؛ ولمْ يبقَ لهمْ حسْبَ علمِي إلا القبورَ ،بعدَ أنْ باعُوا الوطنَ بأبخسِ الأثمانِ .
فالاستقلالُ يَعنِى :الحريَّةَ والكرامَةَ والانعتاقَ والسيادةَ الوطنية واستقلاليَّةَ السلطَةِ الحاكمةِ للبلدِ - أيّ بلدٍ - وانطلاقَها ورجوعَهَا إلى المَصالِحِ العُليَا للشَّعبِ الذي تَحكمُهُ وتُمَثِّلُهُ ،مِمَا يُوجِبُ عليْها أنْ تحفظَ للمواطنِ كرامَتَهُ،ولِلوَطَنِ حرْمَتَهُ وثروَتَهُ ،وتَصرفَ مَوارِدَه فِيمَا ينفعُ أهلَهُ وساكنِيْهِ ؛مما يُصْلِحُ الأرضَ ويَصونُ العِرْضَ ويَؤدِّي إلى حياةٍ كريمةٍ ؛ كمَا أنَّ الاستقلالَ يَعنِي أنَّ الجميعَ سَواءٌ أمامَ القانونِ،سواءٌ فِي الغُرْمِ والغُنْمِ وليسَ لِمُجموعَةٍ"استعمَارِيةٍ"مِنَ النُبلاءِ - قديمةٍ كانتْ أو حديثةٍ – فضلٌ على غَيْرِها ؛غيرَ تنفيذِ أحكامِ هذهِ النخبةِ المنفردَةِ بالجاهِ والمَالِ والسلطانِ!

ففِي دَولةِ القانونِ والكرامَةِ والاستقلالِ ؛لا " تبخلُ الحكومةُ على مُواطنِيها ،ولا تحتكرُ مفاهيمَ الإصلاحِ والعَدلِ والإحْسانِ ؛ولا تَمُنُّ علَى " شَعبِها بانجَازاتٍ بَسيطةٍ - إنْ لمْ تكنْ تافِهةً ! إذْ أنَّها ليْسَتْ مِنْ مَالِها ولا مِنْ مَالِ أبِيها ؛بلْ هي مِنْ مَالِ الشَّعبِ (هباتٌ وضرائبٌ ومواردُ عامةٍ...)
المسئولون إنَّما جَاؤوا - وهذا هوَ المُفْتَرضُ - لِخدمةِ الوَطنِ وأهلِهِ والنهوضِ بِهم ؛لا لِيسومُوهم سُوءَ العَذابِ ،أوْ يَحِيْفُوا عليْهم فِي الكَيْلِ والمِيزَانِ .
فِي دولةِ الاستقلالِ والحريةِ والكرامةِ ؛ لا يكون تقسيمِ الثروةِ والمكاسب على أقرباءِ المسئول ومُقَربيهِ وإشراكِ الأصهَارِ والحلفاءِ وأحفادِ النبلاءِ [سُنَّةٌ مَحْمُودَةٌ ] !
مُخطئٌ مَنْ يظنُّ أنَّ الاستقلالَ مجرَّدُ عَلَمٍ رفرافٍ أو حِصَّةٍ تربِيةٍ وَطَنِيَّةٍ أو إعلانِ ولاءٍ وانتماءٍ فِي صحيفَةٍ ورَقِيَّةٍ أو جوقةٍ موسيقيةٍ ونشيدٍ "وطنيٍّ" تتعارضُ كلماتُهُ ومعانيهُ معَ سلوكِ مستمعيهِ وعازفِيهِ .
مخطئٌ مَنْ يظنُّه"بقرةً حلوبًا" يستنزفُ قدُراتِ المُواطنِ البسيطِ ،وتجهزُ علَى قواهُ المتهاويةِ ! نحنُ نتحدثُ عنْ واقعٍ مُرٍّ مثلِ العلقمِ مَليءٍ بالمُنغِصَاتِ ،أهلُه يعيشونَ بينَ لظًى نزَّاعةٍ للشَوى و تصليةِ سقرٍ ؛ و"عليْةُ القومِ" تُنَبِئُهم أنَّهم :"أحسنُ حالاً مِنْ غِيرِهم " وأنَّهم فِي الطريقِ إلى الفردوسِ الأعلَى! ربَّما يكونُ المُتًنًبِيّ أكثرَ غِلظَةً وانحيازًا للمحتلِّ مِنْ غَيْرِهِ إذْ يقـولُ :
وظلمُ ذَوِي القُربَى أشدُّ مَضَاضَةً علَى المَرْءِ مِنْ وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
ومعَ ذَلِكَ فانَّ تخليدَ ذِكرَى جَلاءِ المحتلِّ ،وخَصخَصةَ مُؤسساتِ البلدِ الحيويَّةِ ،وفتَحَ البَابِ علَى مِصْراعيْهِ أمامَ شركاءِ متخذِي قرارِ الخَصخَصةِ واللصْلَصَةِ مِمَّنْ سُمُّوا بالمستثمِرِين الأجانبِ والشركاءِ الاستراتجِيينَ والذِي كانَ لَهُ أكبرُ الأثرِ فِي إدخالِ البلادِ تحتَ سيطرةِ مَجموعاتِ غسيلِ الأموالِ والمضارباتِ التِي استباحتْ البلادَ والعبادَ ؛وسرَقَتْ مُدَّخراتِ الوطنِ في البورصاتِ الوهميةِ ، والضمانِ الاجتماعِيِّ وسوقِ عمَّانَ المالِيِّ ،فتفاقمَتْ المديونيَّةُ لتقارِبَ (27) مليار دولار؛ كلُّ هذا يطرحُ سؤالاً مهمًّا مَفادَهُ:"ما الغايةُ مِنَ الاستقلالِ عَنْ محتلٍّ واستبدالِهِ بآخرَ ؟! وما الفائدةُ مِنْ بيعِ كلِّ مؤسساتِ الوطنِ للغرباءِ ؟ أليسَ المستولِي على مَا ليسَ لَهُ - مُحتلاً وبغيضًا مهما كانتْ لغتُهُ أو لون نياشينِهِ ؟ أليسِ وطنِي مُبْتَلَى بِعصْبَةِ (دلَالِينَ) لا يتقونَ فِيهِ اللهَ ؟
وأخيرًا الاحتفالُ بِذكَرى الاستقلالِ واجبٌ وطنيٌّ ؛ إذْ أنَّ للأوطانِ في عُنقِ كلِّ حرٍ يدٌ سلفَتْ ودَينٌ مستحقٌّ،حفِظَ اللهُ وطنِيَ الأردنَّ،وجَنَّبَهُ كلَّ مكروهٍ ،وكلُّ عامٍ والوطنُ بخيرٍ .



تعليقات القراء

اسماعيل يوسف
لا حول ولا قوة الا بالله .....واقع مؤلم ومرير . ولكن نردد : بلادي وان جارت عليَّ عزيزة ....وأهلي وان ضنوا عليَّ كرام
23-05-2017 05:32 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات