الشهاوي ونجمي يستعرضان "سرديات الحزن" وأسئلة الوجود في "شومان"(صور)


جراسا -

عاين شاعران عربيان الإمكانيات الكبيرة التي يمكن للقصيدة الحديثة أن تختزنها، من حيث خفوت نبرتها وضديتها تجاه المنبرية، وانحيازها إلى جوانية الشاعر وهواجسه الداخلية عن الكون والوجود، إضافة إلى انحيازها الكلي إلى الإنسان بأفراحه الصغيرة وانكساراتها الكبيرة. وقبل كل ذلك، كانت قصائد عن سردية الحزن، ومحاولات الإنسان عبور الأسئلة الكبرى نحو أمان حتى لو كان مزيفا.

الأمسية التي استضافها منتدى عبد الحميد شومان مساء أول من أمس الإثنين، شارك فيها الشاعران؛ المصري أحمد الشهاوي، والمغربي حسن نجمي، وقدمها وزير الثقافة الأسبق الشاعر جريس سماوي، وتابعها جمهور كبير من الشعراء ومحبي الشعر.

البداية كانت مع الشهاوي الذي قرأ نصوصا حاول من خلالها استقصاء العلاقة اللانهائية بين الرجل والمرأة، وصورة الرجل الوحيد الذي يحاول رؤية نفسه في مرايا النساء العديدات.

لكن الجدل الذي تحاول القصائد إقامته والتعبير عنه، ليس خاصا بالحسيات، وإنما يتعداها نحو الأسئلة الوجودية الكبرى، خصوصا حول الكينونة والوجود والمعنى. ويستقصي الشهاوي حالات الرجل في الفقد وحالاته في الفقد والبعد، محاولا أن يرسم صور الحياة العديدة التي من الممكن أن تتشكل من خلال هاتين الحالتين.

قصائد الشهاوي التي قرأ منها نماذج خلال الأمسية، هي قصائد "قصدية" وبعيدة عن حالة التداعي غير الواعية، فهو يكتب ليجلب معنى معينا، ويرسم صورة مؤطرة، مستعينا على ذلك بالعديد من الاستدخالات والتضمينات والإشارات إلى نصوص تراثية، أو مصطلحات ومفردات بعينها، لكي لا يقول كل المعنى، بل يكتفي بالإشارة إليه، مثل المقطع الذي يقول فيه:

"ما أنت الآن سوى ملك لقش الطيور التي هجرتك
وملكك كان على ذهب زائف
وآية عرشك منحولة
وكتابك لم يكن باليمين
ولم تشبه البوم في الشؤم
ولا الغربان في سود الطوالع".

في هذه الإشارات السريعة، وفي اتكائه على هذا الموروث الغزير، نراه محاولا توكيد الصورة أحيانا، وفي أحيان أخرى يسعى إلى نقضها ونسفها بأكملها، ويستعين بالأنقاض من أجل بناء حالة ضدية بالكامل.

في قصائده، يحاول الشهاوي بناء متوالية من الصور،وهي صور تأتي كما لو أنها قطع فسيفسائية في لوحة كبيرة، هي مجمل "القصيدة – الفكرة" التي يحاول رسمها وتأطيرها في نهاية المطاف، كما في قوله:
"على الرف
أحلام وأدها الليل
ورسائل منسية
وراديو قديم
وعقد إيجار لبستان ظلٍّ
وحبر بارد في دواة،
لم تنم ليلة في يدي
وصورة شمسية لجنيّة ساعدت أمي في الخبيز".
الأهم في قصائد الشهاوي، هو انطلاقها من إعلاء يقيني للقيمة المطلقة للإنسان بما هو إنسان غير متحيز في لون أو عرق أو دين أو لغة، في استقصاء لحالاته بما فيها من انتصارات وهزائم وانكسارات. وهي النظرة نفسها التي تحكم رؤيته للمرأة، إذ في كتابته عنها لا تتبدى كـ"مختلف"، بل هي حفر في التنويعات الإنسانية التي تمثلها المرأة، وبذلك لا تصبح نقيضا أو "مناوئا"، بل تعبر عن وجود أصيل ثري، وما يلحق هذا المعنى من كينونة مستقلة متحققة.
الشاعر المغربي حسن نجمي، بدأ قراءاته بالتأكيد على أنه "في حضرة الشعر يحضر الارتباك"، لافتا إلى أنه ارتباك شعري يستشعر ثقل المسؤولية؛ مسؤولية الكلمة والجمال.
وبين نجمي في كلمة تمهيدية له أن الأردن بالنسبة إليه ليس مجرد مكان يزوره، فقد امتدت علاقته به منذ فترة طويلة. وقال "في الصفوف الإعدادية كان هناك عدد من المعلمين الأردنيين حضروا في بعثة، وتوزعوا بين المدن المغربية، وقد قيض لي أن أتعلم الحرف واللغة على أيدي بعضهم".

نجمي الذي يقول دائما إنه حسم خياراته الجمالية الشعرية لمصلحة قصيدة النثر دون غيرها، قرأ نصوصا غلبت عليها سمات ثلاث؛ هي انكسار النبرة، الشجن، وثيمة الموت الطاغية.
في "ضريح أنّا أخماتوفا"، "موت شاعر"، "النائمة"، "الموت"، "ابقَ قليلا أكثر"، "الهروب"، "وجه إله هندي"، هي جميعها قصائد تستقصي ثيمة الموت الغامضة، بما هو حالة غياب قسرية لا يمكن تفسيرها، وينبلج منها سؤال الوجود الأهم؛ الغاية من حياة محكومة بنهاية حتمية من دون إرادة في القدوم أو في الذهاب!
لكن الشاعر يبدو، أحيانا، كما لو أنه يحتفي بالموت، فالموت في قصائده ليس دائما تعبيرت عن نهاية تشكل انطفاء، أو خاتمة للمسيرة، بل من الممكن أن يكون بوابة لوجود آخر مختلف، صحيح أنه وجود مبهم، ولكن ثمة دائما إمكانية لاستمرارية من نوع ما. إذ يقول في إحدى قصائده:
"الآلهة الصغيرة وحدها تعرف –
لماذا بقينا هنا، إلى الآن، نحرس الضريح
حتى في الليل لا نفترق عنك.
قالت كتب ستنهض التترية من أبد نومها –
وستمضين معنا، بقلب أخضر، عائدة إلى بلاط الحياة.
لهذا نحن هنا، نصلي قصيدتنا من أجلك".

نجمي مسكون بالتفاصيل، حتى الدقيقة منها، لذلك نراه يعمد إلى العناية بتسجيلها بروية، محاولا جمع أكبر قدر منها في نصه، كما في قصيدة "وجه إله هندي"، فهو يضع فيها حتى تاريخ اللقاء ومكانه "كما كلمتني في بهو الفندق في كازبلانكا – 1999"، وكأنما بهذا السلوك يحاول "تكسير" الموسيقا تماما، إذ لا يكتفي بأن ينتهج قصيدة النثر التي تنحاز إلى نثرية عالية، بل أيضا يعمد إلى خلخلة البنية الداخلية للمفردة، وتجريدها من أي موسيقا في داخلها، بحسب تنظيرات سوزان بيرنار حول الموسيقا الداخلية. لكن الأمر الآخر الذي أراده من هذا النمط، هو استقصاء الصدق الأدبي، كأنما هو يسجل مذكرات مجردة، ويضفي عليها الصدقية بإيراد الزمن والمكان.

التفاصيل الكثيرة وإيرادها في قصائد نجمي، تذهب في سياقات خدمة النص الذي يريد أن يتوّج لوحة كاملة في النهاية، غير أنه يعمد، أيضا، إلى تقنيات سردية كثيرة في هذا السياق، مثل المنولوج الداخلي وما يمكن تسميته "تيار الوعي"، والتذكر، والاستفهام والاستدراك. ولا يكتفي بتلك المستويات السردية لغويا، بل، أيضا، يرسمها كتابة، كما في جمله المعترضة التي يضعها بين أقواس كبيرة في قصائده، كما هو الحال في قصيدة "ذكرى بعيدة":

"أذكر ونحن معا أعلى تلال الرمل
وأنا أداعبك
(كان الرمل شاهق الحمرة والصيف سكران)
وفجأتني: لمَ لا على سرير؟
(حدقت كي أتأكد من وضوح الكحل)
تركت اندهاشي عند كأس القهوة وركوة الأعراب
وجريت خلف شعاع عينيك".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات