"بعد بيروت" لرائدة الشلالفة .. نزف الحروف في سيرة الدم


جراسا -

خاص - نوال قصار *

أذكر تماماً صباح ذلك اليوم من شهر أيلول 1982 عندما استيقظ العالم على رائحة الجثث والدم الفلسطيني النازف، وأنا في طريقي إلى العمل كانت شوارع عمان كئيبة إلى حد الموت وتعلو الصفرة وجوه الناس اولئك المنتشرين على الارصفة، والجالسين وراء مقود مركباتهم، هدوء قاتل كان يغمر الكون حتى أبواق السيارات سكتت ولم تكن كعادتها تعج بالضجيج الصباحي الذي يرافق أزمة السير أثناء الذهاب إلى العمل.

كان الجميع يتابع نشرات الأخبار وهي تنقل صور الموت من مخيم صبرا وشاتيلا، وكأن الطير على رؤوسهم ذهولا من حجم الفجيعة الدامية التي اقترفت بحق الاجساد البرئية.

عادت الصور تباعاً إلى ذاكرتي وأنا أقرأ رواية "بعد بيروت" للإعلامية والكاتبة رائدة الشلالفة والصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع.

في واقع الأمر كلما تقدمت بقراءة الصفحات، كانت تقفز إلى ذهني صور عديدة عرضتها شاشة التلفزيون آنذاك والعائلة جميعها تشاهد بفجع ووجع الجثث والتحليلات والأخبار، وقد أجادت الكاتبة رائدة الشلالفة نقل الصورة حية إلى ذهن القارئ حتى لكأنك تشعر بنزف الصفحات وهي تروي بسلاسة وتفصيل دقيق حقائق وقائع أحداث تلك الفترة من التاريخ النازف للنزوح والمخيمات وترك الأوطان لمحتل ما زال ينتهك حرمة الأرض والإنسان.

في مقدمة الرواية تهدي الشلالفة روايتها : "وإلى فراشات ملائكية اكتضت السماء بأرواحهم بكاء، إلى شهداء صبرا وشاتيلا"، اهداءٌ حمل مجاز الفجيعة التي مضى عليها نحو ثلاثة عقود على مذبحة الدم والبطش، وفي واحدة من أكثر الفصول دموية في تاريخ الشعب الفلسطيني، أفواجاً من الفراشات الملائكية التي تصرخ غارقة في الدم والعنف في معظم أوطاننا العربية لحتى أننا نسينا قضيتنا الأساسية والمركزية القضية الفلسطينية.

وفي موازاة التفاصيل الدقيقة للمجازر التي سردتها الكاتبة بحرفية بارعة ولغة متمكنة، والرحيل اللاحق عن بيروت، عملت الشلالفة على تعرية انهزامات شخصية تسير جنباً إلى جنب مع الخسائر والهزائم العربية، ألا وهي فشل علاقات الحب التي جمعت 3 شخصيات في الرواية الذين هم أساساً مناضلون فلسطينيون منفذون للعمليات العسكرية الفلسطينية على الحدود اللبنانية مع المحتل الإسرائيلي، بلغة شعرية مرهفة وحس عالٍ .

تقول الكاتبة في الفصل 36 صفحة 105 من الرواية: "في الحب كما الحرب، تتشبث بطعم الحياة ليس لأجل الحياة بل لأجل أن لا تستحيل الهزيمة إلى فجيعة، فللهزيمة في الحب والحرب رائحة الانكسار الذي يسلبك الحياة وطعمها في آن، وتبدأ بتفحص معالم الأشياء كأنك تكتشفها للمرة الأولى، يصير حزنك كائناً ويغدو حردك حالة تحبها وتهرب إليها، وعندما تستكين لفكرة عبثية وجودك تصبح حراً، وتبدأ بأولى محاولاتك الحقيقية للتمرد، تقسو، تكره، تكذب، تحنث بوعدك، تتنصل من ماضيك بكليته، وترحل إلى داخلك مارداً لا تعرف غير نفسك حاكماً!!".

مما لا شك فيه أن قراءة رواية "بعد بيروت" تعيد إلى ذهن القارئ جميع أشكال الدم العربي النازف على الساحة الآن، ولكنها أيضاً توثيق بشكل دقيق كل التفاصيل الإنسانية لمعاناة سكان المخيمات أثناء تنفيذ المجازر، ويسجل لرائدة الشلالفة إبداعها في هذا العمل الروائي الأول لها، وهي الإعلامية والصحفية التي لها بصمة واضحة على كشف المعاناة الحقيقية للظلم والفساد الذي يتعرض له الإنسان.

* اعلامية وكاتبة روائية اردنية



تعليقات القراء

ام محمد حكيم
نوال قصار انتي رائعةةةةة
05-03-2017 12:58 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات