يا معلمي الوطن احذروا العسل المغشوش !!


خلال الأسبوع الأول من شهر أيلول من عام 1961 باشرت العمل مدرسا للغة العربية في مدرسة رجم الصخري الإعدادية – اسمها الآن مدرسة الحسينية الثانوية – في الأيام الأولى تلقيت مثل كل زملائي المعلمين عروضاً صادقة للسكن بالمجان من أهالي القرى المحيطة بالمدرسة ، إذ كان هؤلاء الأهالي يعتبروننا ضيوفا مكرمين عليهم ، يتولون تعليم أبنائهم وتربيتهم وتقديم أفضل الرعاية النفسية والتربوية والتعليمية لهم ، لم نقبل العرض وقررنا أن نستأجر غرفاً متواضعة للإقامة فيها ، لكن هؤلاء الطيبين قدموا لنا هذه الغرف بأجرة شبه مجانية ، كنا نتقاضى مرتبات شهرية نجدها مجزية ويمكن التوفير منها ، وكان الطلبة بالنسبة لنا عصافير الجنة الملائكيين ، لم يكن هناك تلفزيونات وأجهزة المذياع لم تكن قد انتشرت وبالنسبة للصحف فلم نكن نعرفها أو تصل إلى الكرك عاصمة المحافظة ، ومن كان يرغب في الاستماع للإذاعة فان عليه أن يذهب إلى احد المقاهي في الكرك للعب الشدة أو طاولة الزهر والاستماع بصعوبة للمذياع الذي كان يعمل على بطارية السيارات ، وربما لا يصدق الكثيرون أنني والزميل المرحوم فوزي العمارين كنا نقطع المسافة بين مدرسة رجم الصخري ومدينة الكرك ( حوالي 20 كيلومترا ) على أقدامنا . إذ لم تكن هناك أيامها حافلات للركاب أو سيارات أجرة ، ونضطر أثناء قطع المسافة إلى التوقف في غرف زملائنا في مدارس المزار ومؤته ومحنة ( العدنانية ) حالياً ، وفي مرات قليلة نحظى بالركوب في سيارة بيع الكاز على القرى أو سيارة عسكرية أو على صهوة تراكتور ، وأتحدث هنا عن زمن يعود تسعة وأربعين عاما عن زمننا الحالي .

تسعة وأربعين عاماً تنقلت خلالها في وظائف كثيرة ، معلماً في مدرسة رجم الصخري ومعلماً في مدارس البحرين ومعلماً في مدرسة الثورة العربية الكبرى في معسكر الزرقاء حيث كان من طلابي الصديق المرحوم عبد لله الحسنات والصديق المشكلجي أسامة فوزي اليوسف والصديق الشاعر امجد ناصر وكثيرون سواهم ، وبعد فصلي من عملي في الإذاعة التي نقلت منها عقوبة إلى دائرة المطبوعات والنشر بسبب مقالة نشرتها في جريدة الدفاع غادرت للعمل معلماً في واحة نبع النخيل في السعودية ، وبعدها سافرت إلى ليبيا عام 1969 حيث تفجرت ثورة الفاتح من سبتمبر بقيادة الأخ العقيد معمر القذافي بعد وصولي بأسبوع واحد ، وبقيت هناك حتى عودتي للوطن بعد تسعة أعوام من العمل في الصحافة الليبية ، خلال هذه الأعوام التسعة والأربعين بقيت حالة المعلمين في القرى الأردنية تسير من سيئ إلى أسوأ ، وظلت حالة المعلمين في المدن الأردنية تأخذ ذات الاتجاه حتى أصبح حال معلمي المدن لا تختلف عن حال معلمي القرية ، مع فارق أساسي ومرعب هو أن مرتب المعلم لم يعد يكفي لشراء الخبز والخضار واللباس وأجرة المواصلات لكنني سأتوقف عند المسألة الأكثر سوءاً وهي المتعلقة بسكن المعلم عندما يعين خارج محافظته .

عندما تقرر الحكومة – ومنذ سنوات كثيرة – بناء مخفر امني فان البدء في بناء سكن محترم ونظيف للعاملين في هذا المخفر من رجال الأمن تسبق بناء المخفر ، وقس على هذا كل أنواع السكن الوظيفي في مختلف المحافظات ، بدءاً من أصحاب العطوفة المحافظين وغالبية مدراء الدوائر وانتهاء بشرطة المخافر أو مديريات الشرطة ، وعمل كهذا هو موضع تقدير وشكر لكل الحكومات التي حرصت على أدائه أما المعلمون الذين يعينون في قرى ومدن غير قراهم ومدنهم فان الحكومات لم تعتبر ولا تعتبر تأمين سكن لهم جزءاً من مسؤوليتها ، وعليهم أن يديروا رؤوسهم حتى لو اضطروا إلى السكن ثلاثة أو أربعة أو خمسة معلمين في غرفة واحدة كالعمالة الوافدة وعليكم تصور صعوبة وقسوة الأمر خاصة عندما يتعلق بالمعلمات العاملات خارج مناطق سكنهم .

قبل خمسين عاما كنا نذهب إلى الخياطين في الكرك كما في عمان كما في أية مدينة أردنية نختار القماش المناسب ونفصل منه بذلات بكلفة اثني عشر ديناراً تقسط على اثني عشر شهراً ، كان المعلمون محترمين وأنيقين مثل أي موظف حكومي وشيئاً فشيئاً بدأت رواتب المعلمين بالتآكل حتى لم تعد تسد احتياجاتهم الأساسية ، وبات اللحم سلعة كمالية وشيئاً فشيئاً صار الدجاج كذلك ، ثم بدأ بعض الفرج عندما حدثت ثورة ستر العري والحرص على الأناقة بعد افتتاح أسواق نيكسون وأقدام الأردنيين – وفي الطليعة منهم المعلمون – بشراء ملابسهم وأحذيتهم وملابس وأحذية أبنائهم وبناتهم من البالات ، ومع هذا ظل المعلم الجندي المجهول والمضطهد والجائع والزق والطفران والمؤدي لأنبل رسالة تتعلق بأعداد أبناء الوطن وبناته لمواجهة الحاضر وبناء المستقبل . وما تزال قصة السكن الوظيفي هي المستثناة في برامج الحكومات متخلية عن رعاية أولى الموظفين بالرعاية خاصة وان مهنة التعليم الوحيدة التي لا يمكن أن تمارس الفساد فلا مدراء المدارس ولا معلموها يسرقون دفاتر أو أقلاماً ، ومحايات أو طباشير ، علب هندسة أو مساطر مع أن المجتمع يسرق أعمارهم وخبز أبنائهم وأدوية مرضاهم وحتى مقاعدهم الجامعية ثم حقهم في التوظيف .

اضرابات المعلمين ليست بسبب رمانة ولكن بسبب قلوب مليانة ، اعرف أن من حقوقهم الدستورية والسياسية أن يكون لهم نقابة مثل كل العاملين في مهن مخلفة في بلدنا لكن الحس الأمني الطاغي لدى مسؤولينا ودوائرهم ومديرياتهم المختلفة ينظر إلى الأمر على أن المعلمين والمعلمات جميعا جنود تدربوا على تخريب استقرار الوطن وأمنه وان كل ما يحتاجون إليه هو خندق النقابة ليقاتلوا منه الحكومات المتلاحقة .

لم يكن لمعلمي الجنوب ثم لمعلمي الوسط والشمال نقابة عندما قرروا الاعتصام والتظاهر السلمي مطالبين بحقهم الدستوري والسياسي تشكيل نقابة لهم تكون مظلة لأهم وأنبل واخطر تجمع للأردنيين ، وكان يمكن أن يبدأ الحوار بينهم وبين الحكومة مع اليوم الأول من تحرك المعلمين لكن قناعة الحكومة الحالية كما كل ما سبقها من حكومات أن الأردنيين تمسحوا وتم تجريدهم من كل كبرياء ورجولة ومواطنة شريفة ، وان غاية ما يستطيعون فعله هو الإضراب والاعتصام ليوم واحد ثم يعودون إلى الحظيرة مطاطأي الرؤوس وطالبين وضع القيود حول أعناقهم وأرجلهم وأيديهم وتسكير أفواههم بالخوف والإذلال ، ثم حدث كل ما حدث وبدأنا نتابع أمورا يصعب فهمها وتؤكد لنا أن بعض مسؤولينا مصاب بالشوزوفرينيا ، الناطق الرسمي يوجه الإهانات والتهديدات بالفصل والاعتقال والسجن اليوم وفي اليوم التالي يخرج علينا رئيس الوزراء ببيان أخلاقي ومسؤول يحمل المحبة ويؤكد الرعاية ، ولا اعتقد أن هناك اتفاقا بين دولة الرئيس ومعالي الناطق الرسمي الهزبر يقوم على أن هذا الناطق أن يقوم باقتلاع عيون المعلمين والمعلمات ويتولى دولته إعادتها إلى محاجرها وحتى وضع الكحل الجميل حولها !!!

ما أود أن اختتم هذه المقالة به ودون السماح لأحد باتهامي بالتحريض ضد الحكومة ، فاخر ما يحتاج إليه المعلمون هو تحريض يأتي من خارج جوعهم وفقرهم ومرضهم واحتقار الحكومات لهم ، وأقول لهم اثبتوا على مطالباتكم العادلة ، واعرف أن ألمكم بسبب انقطاعكم عن تدريس طلبتكم هو أكثر صدقا من الم المسؤولين الذين يجلسون على شرفاتهم يتفرجون على أشكال معاناتكم ومآسيكم ، إن تراجعكم خطوة واحدة إلى الوراء عن هذه المطالبة سيتراجع بعدها المسؤولون كليومترات المسافة بين عمان والعقبة ، لقد ظهرتم أمام أبنائكم الطلبة مواطنين محترمين وقادرين على الوصول إلى حقوقهم وفرض احترام الآخرين لكم ، إذ تم تراجعكم فان أول ما تخسرونه هو احترام طلبتكم لكم ، واعرف أنكم ستعوضونهم عن كل تأخير في دراستهم وأنكم تشعرون ببعض الذنب على تقصيركم نحوهم مضطرين .

وأوجه إليكم هذا النداء

يا معلمي الوطن اتحدوا واصمدوا ولا تستسلموا فانتم اشرف المواطنين واشرف الموظفين واشرف المؤدين لواجبهم .

ظلوا أمام الوطن وأمام أهله وأمام أبنائكم الطلبة القدوة الشجاعة في القتال من اجل إنسانيتكم ومن اجل مواطنتكم ومن اجل خبزكم ودوائكم ، ومن اجل الدفاع عن حقوقكم المسروقة و المأكولة .

خذوا أبناءكم وبناتكم إلى خندقكم حتى يكبروا على قاعدة انه ما من حق يضيع إذا طالب به صاحبه وما من حق يعود لكم إذا تعبتم من المواجهة بعد أسبوع أو أسبوعين .

أؤكد لكم أن اللقمة الحلال على بعد أصابعكم وان حقكم في إنشاء نقابة لكم بات على عتبة الباب ، وكل ما لدى بعض المسؤولين الذين يحمرون عيونهم العمياء عليكم ويهددون صلابتكم ونبلكم وكرامتكم ومطالبتكم بحقوقهم لا خوف منه ولا قيمة له .

إذا استسلمتم الآن للتهديد و تراجعتم أمام إطلاق الوعود الكاذبة فان أموركم ستزداد سوءا وها انتم بعد خمسين عاما من قرار قمعي وديكتاتوري وحقير بإلغاء نقابتكم تعودون إلى المطالبة بها وسيتحقق لكم الكسب الكبير والحكومات والوزراء يموتون بعد عام دراسي واحد بالشيخوخة المبكرة أو بالفساد الطاعن في السن .

وأخيرا وقد كنت قبل خمسين عاما معلما مثلكم اسأل الله أن يوفقكم وان يهدي الحكومة إلى ما فيه خير الوطن .

www.alkhandaq.com



تعليقات القراء

معلمه متقاعده
الشكر الجزيل استاذي الفاضل خالد محادين
كل ما تفضلت به جميل جدا والمطالبه بنقابة للمعلمين حق شرعي لا بد منه ولكن استاذي العزيز الا تجد ان هناك قوة خفيه على مستوى عالي من النفوذ تقف حاجزا منيعا ضد اقامة نقابة المعلمين وان المعلم يحتاج الى قوة مناسبه حتى يكون موازيا لقوتهم تلك التى تشد بانيابها على حبال الامل لدى المعلمين حتى تقطعها
27-03-2010 06:03 PM
الشايب
كفى
27-03-2010 09:43 PM
ابوفارس / مغترب
هذا تحريض وفتنه ظاهره للعيان ومبطنه بكلام معسول لايخلوا من الغش وبعد كلام جلالة الملك القائد فلتقص كل الالسن وقد وصلت رسالة جلالته لكل االاردنيين الشرفاء وعلى رأسهم الاخوه المعلمين
27-03-2010 10:28 PM
ابو بشار مقدادي
من امبارح قلنالك يا استاذ خالد المحادين بدناش اياك حليق الراس مثل الوزراء يا اخي ربي شعرك واعمل شاليش وبدنا اياك تحلق سكسوكتك
27-03-2010 11:12 PM
أحمد الحمود/ نقيب معلمي لواء الكورة
كل الشكر لك يا اأخ خالد محادين...
حقا لا يشعر بالمعاناة الا من عاشها ...
ونحن صامدون وصابرون حتى النهاية...
27-03-2010 11:24 PM
كركي
الى ابو فارس 0 كفى نفاق لان المنافقين اخوان الشياطين والمزاودة التي هي من طباعك كما يبدو لا تنفعك 0 والمعامين ومعهم السيد محادين هم من اصحاب الوطنية كونهم يخرجون الاجيال تلو الاجيال 0 والي ما بعرف الصقر بشوية حمى اللة الاردن بقيادة ابا الحسين
27-03-2010 11:31 PM
karak
حيث تفجرت ثورة الفاتح من سبتمبر بقيادة الأخ العقيد معمر القذافي
28-03-2010 08:48 AM
محمد
الحقوق كان يجب انتزاعها في زمنكم سيدي ، لأنكم عايشت زمن تأسيس الدوله وكان يجب أن تكون نقابة المعلمين جنباً الى جنب مع سائر مؤسسات الدوله التي كانت تنشأ . نعم سيدي أنتم المعلمون القدامى تتحملون كامل مسؤولية عدم تأسيس نقابة للمعلمين ... ارجو أن تعذرني سيدي عندما كنت وزملائك الأفاضل تذهبون مشياً على الاقدام عشرين كم من أجل لعب الشده أوطاولة الزهر أو الاستماع للمذياع لو فكرت قليلاً أنت وزملائك بالمستقبل أي مستقبل المعلمين أثناء هذا المسير لوصلت الى النقابه وبنيتم المستقبل المزدهر لهذا الجيش المهمش ... عذراً سيدي ..
28-03-2010 10:09 AM
مع ـــــــــلم
ما قصرت تسلم ويسلم قلمك الذي عرف اين وجع كل معلم
28-03-2010 04:55 PM
محمد سهيل
لا نثني عليك فأنت الكبير فوق الثناء - أبلغت في التصور وليس بالكثير على عمقك الحسي وثروتك في التقدير - نحيي فيك الانتماء لمهنة شريفة زاولتها - ونأخذ ممن بمثلك النصيحة نطبقها - فانتم العمق لنا - شاكرين فأنتم منّا ولنا .
28-03-2010 06:49 PM
طالب
الى احمد الحمود... الانسان يكبر بما يكتنز وليس بما يلبس نفسه ... حافظ على ركازة المهنة ولا تستخفها بالقاب تلصقها بنفسك ... لا اكتب هذا ناقدا ولكن حرصي على المهنة وشخصك .
28-03-2010 08:08 PM
الروسان
رائع يا استاذي الكريم
29-03-2010 09:43 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات