لن أكتب عنك، سأكتب عنا!


لن أكتب عن الأستاذ المتحرش بطالباته، ولا عن يوميات مجلس النواب الأقرب هي إلى البلاهة وبطولات المراهقة الساذجة، ولن أكتب عن التقارير الصحفية التي تباع برسم القرابة والدنانير، وعن فتاة اغتصبت من عالمها إلى أحاديث مساء الأردنيين لتصفية الحسابات فقط، وليزداد إنحطاطنا. لن أكتب عن إقتصاد مريض بالحمى، نعالجه بالنعناع واليانسون والضرائب المتصلة والمقطوعة الكثيرة، والديون المستوردة، ونرجو العلاج بالداء لا بالدواء.

ولن أكتب عن الفقر وجيوبه، وظرافة وجه الطفل الفقير، وعن توارث الفرص والوظائف واستغلال المقدرات والنهب والفساد، ولن أكتب عن الإرهاب والقتل وتوزيع الناس على النار والجنان.
ولا الظلم يثيرني لأكتب عنه ولا البطالة والترهل ولاعقيدة الدولة، ولا جرائم الشرف أو عصابات التهريب ولا حتى الشيوخ الدجالة ممتطي ظهور الناس بالكذب الصريح القبيح، لن أكتب عن تأميم خطبة الجمعة أو عن حصة مكافحة الإرهاب و سور مدرسة المنسف والإرتقاء بمنتجات التعليم. سأكتب بكل بساطة عن تفاح الشوبك، الشوبك لمن لا يعرفها هي مجموعة قرى على جبال الشراة، إداريًا هي لواء يتبع محافظة معان في جنوب الأردن، بردها شديد جدًا، له مع عظامك علاقة عشق خاصة، فتراه إذا أقبل يخترقك ليحضن أصل عظمك ونخاعها في فصل الشتاء، أما شمسها فعذبة تكاد تظن النور منها رذاذًا ترشك به الظهيرة، أو عباءة تلبسك إياه إشراقة الصباح.

في الشوبك ولد أبي، ودفنت جدتي التي لا أعرفها إلا من تحنان عيني أبي، ودفن جدي الذي أراه في كل زاهد، وهناك أشجار زيتون ناريةٍ جذوعها تصور تشابك روحي وحرقة صدري، وأشجار رمان تشبه طمأنينة جدي وكروم عنب كأنها ظل أبي. أما تفاح الشوبك فهو أول ما تسأل عنه إذا أخبرت أحدًا أنك ”شوبكي“ وصراحة نحن -أقصد عائلتي الصغيرة- لانزرع التفاح، وأنا شخصيًا لا أحبه، فإذا رأيته لا أدري لماذا تسكنني مخاوف الطفولة أنني إذا قضمته كما تقتضي العادة ستخلع أسناني، لكن التفاح على أية حال علامة لأهل الشوبك كقلعتها.

وعلى ذمة محبي التفاح، فالشوبكي منه له طعم خاص، نكهة مميزة، مثل الفرق بين نكهة الشاي العادي والمعمول منه على الحطب، بينهما فرق شاسع طبعًا، وعلى ذمتهم أيضًا أنه مبارك فيه فالحبة منه تزن نص كيلو لوحدها، وأن ألوانه نقية وبديعة. أوصاف التفاح الشوبكي كثيرة كما أوصاف أبي وجدتي وأهل الشوبك كلهم. وبالمناسبة تفاح الشوبك في غالب الوقت والحال يصدر إلى الخارج، وأنا شوبكي صدرني بلدي الى الغربة أيضًا.

في الغربة يسكن الوطن التفاصيل الصغيرة، بسمة أمك، وردة وحيدة على باب البيت كنت تقرأ عليها السلام صباحًا، فاصل إعلاني على محطة إذاعية، مناكفة الإخوة، أخبار الثامنة، والتفاح الشوبكي، والمنسف الكركي، والزيت الإربدي. في الغربة يكون الوطن في ذاتك وبالك وخيالك، أكبر وأنقى من كل الفاسدين، من كل الكاذبين والمتسلقين، في الغربة يكون تفاح الشوبك أكبر من مجلس النواب، ودعوة جدتي أهم من هموم الإقتصاد والمديونية والتضخم والفوسفات.
في الغربة تشفق جدًا أنت على المرتشين والمتحرشين ومورثي المناصب وكل مقصر بلينا به، فهم يا عزيزي في الوطن ولم يزوروا الشوبك ولم يروّ تفاحها، في الغربة تعلم أنك ووطنك سوف تنسونهم جميعًا سيعبرون وطابور ظلمهم الطويل لنا من دون ذكر ولا أثر، ولو بعد حين، ولن يبقى إلا نحن والتفاح والزيت والمنسف وشماغ جدي والأردن فقط.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات