إضاءة على هايكو "حجرٌ يسقط الآن في الماء"


جراسا -

بقلم: صابرين فرعون

يقوم الهايكو على المراوغة الدلالية، فبرغم اقتصاده اللغوي وصوره المُكثَفة إلا أنه يولد من نضج الصورة وغناها بتفاصيل بسيطة قد لا ننتبه لها أو نتمعن في دورة حياتها ونحن نواكب عجلة الركض خلف أعمالنا ونشاطاتنا اليومية، تفاصيل ينتبه لها ذوي العلاقة بالطبيعة، فهم يخوضون لغة الحوار مع الطبيعة الأم معتمدين على حواسهم، متوحدين مع سكون الريح أو مواراة الشمس خلف الجبال مساءً أو معانقة البحر لرمال الشاطئ مثلاً، بعكس أصحاب الانشغالات الذين لا يجيدون الحوار الصامت مع البيئة الخضراء وتعاقب الفصول عليها..

من المعابد اليابانية بدأ فن الزن، من طقوس الصمت لسماع الحركة وفهم كنهها، فبدأت طقوس التأمل في الأشياء، وبث الحياة من خلال أسلوب الأنسنة، لاستنهاض الهمم والقيم الإنسانية ونطق الحالة تلك اللحظات بقصيدة هايكو، وهي عبارة عن ثلاثة سطور مكونة من سبعة عشر مقطعاً صوتياً. هذا الفن انتقل للعرب، فظهر مؤخراً يحاكي أسلوبياً منطق الهايكو ولكنه حقيقةً اعتمد عنصر التخييل بشكل كبير، وبسبب اختلاف اللسانيات الصوتية من شعب لآخر، اختلف التقطيع الصوتي، كما أدخل البعض سطراً رابعاً أو اكتفى بها على سطرين، ومع أني أعارض أن يكون أغلب المطروح عربياً يمت للهايكو بصلة، وإنما هو نص الومضة أو النص المفتوح إلا أن البعض أثبت أنه حاكى فن الهايكو، مراعياً التقطيع الصوتي وشطور النص وأن يكون السطر الثاني هو نقطة تقاطع بين السطر الأول والثالث واعتماد الفواصل والترقيم..

هنا سأقف على تجربة الشاعر الجزائري الأخضر بركة، في مجموعته الصادرة حديثاً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، بعنوان "حجرٌ يسقط الآن في الماء"، والتي انطبقت عليها أساسيات الهايكو.

يحمل العنوان في طياته ما يحرك الماء الآسن، فقد استخدم الشاعر الفعل المضارع "يسقط" مع الظرف الزماني الآن، وهو ما يشير لاستمرارية الفعل في الوقت الراهن.

من المعروف أيضاً، أن الحجر إن تم رميه في الماء سيشكل "تموجات مائية"، وكأنها لوحة فنية من مجموعة من الحلقات التي تحاول أن تتوسع ولكنها ببساطة تختفي في لحظة الركود أو استقرار الجسم الصلب في الماء، هذه الحلقات قد تمثل الصراع الإنساني وقد تمثل شعور التخلخل في موازين الانشقاق عن الذات إلى المجموع.
من خلال التقاط ذكي، ترك الشاعر فسحةً لظرف الزمان "الآن" كي لا يناقض قانون الحياة بأن كل شيء إلى زوال، أما الحجر فهو الإنسان، لم يعرفه بال التعريف، فلم يقل الحجر، دلالة على أن التجربة في النص الشعري تُعمم..

ترتدي نصوص الأخضر بركة رمزية تلسع الواقع، مثلاً:

(70):
في المغسلة
ثيابٌ تستحم
مما بها منا...

(107)

متدثّراً بورق الأشجار
يهرولُ ماءُ الساقيةِ،
الغابةُ تنزفُ..
هناك رهافة وحس بالمسؤولية اتجاه المشهد بحسب الشاعر، تنضوي على كتابة الفكرة بالاستعانة بالملفوظ الشاعري، وقد اعتمد فيها التورية ومخاطبة الجمادات والموجودات:
بلسان العتبة
يتكلم المنزل
مع زواره...

***********

ستائر النوافذ
رموش أعين البيت
مسدلة على أسرار الجسد...
يمزج الشاعر بين الثقافة العربية والتكنيك "الأسلوب الصوفي"، وهو يتأمل بالكونيات:

(139)
هل تكفي
لفك عقد أسلاك الحدود
أسنان المحبة؟
(140)
بإبرةٍ أو مقص
تتولى الرياح
شؤون الغيم؟

على سبعة أبواب "نصوص هايكو، نافورة الهايكو، التمثال، على حافة الهايكو، ألف باء العتبة، النوافذ كائنات أنثوية، النهر" يصف لنا الشاعر حالات يومية من منظره التأملي، في فصله الأخير، يصف حياة الشاعر بالنهر، وإذ هو يتدفق بالحياة ويفنى في النهاية:
ولأنه يتعذب
في الرحلة من النبع إلى المصب
ماء النهر عذب...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات