حارس شجرة التوت


كنّا ثلاثة أطفال نسير متّجهين الى البساتين الحجازية ، حيث توجد شجرة التوت الكبيرة ، العالية الوحيدة في أرض خلاء . كانت الشمس في كبد السماء ، وأخذ العرق يتصبب منّا ونحن نسرع الخطو بالقرب من المقبرة على طريق ترابي فنتعثّر بالحجارة و تتعفّر وجوهنا وملابسنا بالتراب . وكانت صنادلنا البلاستيكيّة تصدر أصواتا مخجلة ، لا نعير لها اهتماما ، ناتجة عن تعرّق أقدامنا . بسمل أكبرنا وأستعاذ بالله من الشيطان ورفع يديه بالدعاء للميتين ، وتمتم بكلمات لم نفهم منها شيئا ، ربّما كان يدعو لأمّه التي فارقت الحياة وهي في ريعان شبابها وتركته مع اخوته يقارعون الحياة وحدهم بعد تزوّج أباهم . وكان علينا أن نصل الى شجرة التوت وارفة الظلال عالية الاغصان لذيذة طعم الثمر ، قبل أن يأتي الرجل العجوز الذي كنّا نسميّه حارس شجرة التوت .

وقفنا في ظلّها ، واختلفنا في من يصعد الشجرة ليقطف ثمرا ناضجا ، وكنت أنا أخفّهم وزنا فصعدت الى أوّل غصن كبير لم يكن فيه ثمر وواصلت الصعود ، ولم أكد أصل الى بداية الاغصان التي عليها ثمر حتّى صرخ أحد رفيقاي من أسفل الشجرة أن رجلا عجوزا يحمل عصا يتّجه نحونا ، والتفّت فرأيته وبدلا من أن أنزل الى الارض أصبحت في أعلى الشجرة وكأنّي تسلقت أغصانها من غير وعي ، وهرب صديقاي سريعا من دون أن يلتفتا واختفيا خلف التلة التي تتربع عليها المقبرة . وصل الرجل الى أسفل الشجرة ، ولم ينظر الى اعلاها ، ولكنّه أخذ يمسّد على أغصانها ويطبطب عليها وكأنّها طفل صغير ، ثم جلس على الارض ووضع عصاه الغليظة الى جانبه واسند ظهره الى جذع الشجرة , ولم أدر أنا ماذا أصنع .

أخذ الوقت يمر ولا يتحرّك الرجل من تحت الشجرة وظننت انه غفا فتحركّت ، فأصدرت الاوراق حفيفا حرّك معه رأسه ، ثمّ سكن . وظننت أنّه سيذهب للمسجد لصلاة العصر التي اقترب موعدها ، لكنّه لم يفعل . نظرت من أعلى الشجرة الى كلّ الجهات ، فبدت لي القبور وكأنّها لا ترتفع عن الأرض ومتساوية جميعها . ثمّ الى الجهة الجنوبية حيث جحر الغولة الذي لم نكن نجرؤ على الدخول فيه للقصص الكثيرة المرعبة التي سمعناها عن الغولة التي تسكنها وتأخذ الاطفال لتأكلهم فيها ، وفجأة من بعيد وقبل الغروب بقليل رأيت قطيع غنم بيضاء وسوداء ، ثمّ بدأ صوت الجرس المعلّق على رقبة الكبش المرياع يعلو شيئا فشيئا والراعي سالم راكبا حماره وكلبه يجري في كلّ الاتجاهات ، وكان يسير أمامه القطيع الذي كان فيه غنم ونعاج كلّ بيوت الطور والشامية ، حيث كنّا نأتي به الى ساحة الشاميّة بعد صلاة الفجر ليرعاها سالم في المراعي المحيطة بالمدينة ولا بدّ أن غنمنا ونعاجنا معه . أقترب القطيع كثيرا من شجرة التوت وانطلق كلب سالم القوي الذي كنت أخاف منه كثيرا الى أسفل الشجرة , وأخذ ينبح بشدّه ناظرا للأعلى .

ظنّ الراعي سالم أن الكلب ينبح على الرجل الجالس تحت الشجرة ، الاّ أنّه أدرك أنّ هناك شيئا في الأعلى ، فرآني من دون جهد . سلّم وسأل الرجل الجالس عن الحال وعن الولد في أعلى الشجرة ان كان حفيده . هزّ الرجل رأسه نافيا وحرّك عصاه متوعدا . وبعد أن أمسك الراعي كلبه وكفل أن لا يضربني أحد نزلت خائفا مرتعدا وأجبت عن سؤال من أكون ولم تسلّقت الشجرة ، ضحك الراعي الذي كنت أعتقد أنّه لا يضحك أبدا ، ثمّ قال للرجل ، لم يبقي لك السيل الكبير الذي اجتاح المدينة من البستان الجميل الذي ورثته عن أبيك وجدّك الاّ هذه الشجرة ، فاجعلها لله واترك الاطفال يأكلون منه . هزّ حارس شجرة التوت رأسه وعصاه ولم ينبس ببنت شفه ، وغادر . رافقت الراعي سالم قاصدين الساحة حيث ينتظره أصحاب الغنم . وبدأ يعدّ سيجارة من التبغ قوّي الرائحة ويقول ، لقد هدم السيل سور البستان واقتلع الاشجار كلّها وبقيت شجرة التوت المعمّرة وحيدة ، ويأتي هذا الرجل كلّ يوم ليجلس تحتها ويتفقدّها فهو لا يستطيع أن يتسلّق أغصانها أو أن يأكل من ثمرها ولا يرى لأبعد من متر واحد أمامه ، نظر اليّ وتبسّم وهشّ على غنمه ومضى .

عدت الى البيت ويداي وملابسي مصبوغة باللون الاحمر من التوت الذي لم أتمكّن من أكله ، وحاولت الهروب من عقاب والدي من دون جدوى ومشفقا على أمّي التي غسلت يداي والملابس مرّات كثيرة .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات