الضوابط الشرعية لاختيار المرشحين


يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف) جمع الحديث النبوي هنا بين القوة والأمانة لأن الأمانة من الإيمان ولا إيمان لمن لا أمانة له.

إن ثنائية (القوة، والأمانة) هي الإكسير الأكبر للنجاح، ومفتاح الاستخلاف، فالقوة تعني مجموع القدرات والإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان، والأمانة تعني حفظ ما أمر الله تعالى بحفظه، ورعاية ما استرعاه إياه، وكل بحسبه، فالتكاليف الشرعية بمجملها أمانة، اعتذرت عن حملها السموات والأرض والجبال، وحملها الإنسان، كما ذكر القرآن الكريم، حملها بكل مجالاتها، فالأمانة في القول والكلمة، والأمانة في الأموال والحقوق، ثم الشهادة والقضاء، وهكذا في السمع والبصر وسائر الحواس.

وعلى هذا فالأمانة هي القيم على تكاليف الإسلام، والحارس على مبادئه.يقول أنس رضي الله عنه: قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، لقد اجتمعت هذه الثنائية في يوسف عليه السلام بعد أن ظهرت قوته وأمانته، فقال له عزيز مصر {إنَك اليوم لدينا مكين أمين}، فقال يوسف {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.إن الأمانة حملت يوسف عليه السلام على أن يعرض نفسه لتحمل المسؤولية في وقت الشدة، فالأمة قادمة على سبع شداد: سمتُها الجوع، وشعارها شدُّ الأحزمة، ولمّا تقدم لم يقل إني نبي كريم، بل قال إني حفيظ عليم، فهذا قوام القوة في هذه المهمة، ولقد احتاج إلى أن يعرض نفسه في أمة لم تكن تعرف قدر رجالها، لقد رأى أن تحمل المسؤولية في وقت الشدائد من خصائص الرجال، الذين يرون تحملها مغرمًا لا مغنمًا.إن القوة والأمانة من صفات أكارم الخلق، الأنبياء المرسلين، فكلهم قالوا بلسان واحد {إني لكم رسول أمين}، وكان عندهم من قوة الحجة، ونصاعة البيان، ومنهجية المناظرة، وقدرة الصبر والتحمل، ما جعلهم يحوزون عناصر القوة في مقام التبليغ. وجبريل عليه السلام سفير الوحي، كان قويًا أمينًا، هكذا وصفه القرآن بقوله {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين}.إن الأمانة والقوة ليستا متلازمتين تمامًا، فقد تجد أمينًا غير قوي، أو قويًا غير أمين، وبينهما أصناف، فأمين فيه بعض القوة، وقوي أمانته ليست كما ينبغي، وهناك من لا أمانة عنده ولا قوة، وهذا الانفكاك في هذه الثنائية من مشكلات الأمة على تعاقب الأجيال، لذا جرى التفاضل في كتب الفقه والسياسة الشرعية بين هذه الأصناف، فمن يُقدَّم من هؤلاء إذا عزَّ القوي الأمين؟ لقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه رجالاً، وفيهم من هو أتقى لله منهم، فقد استعمل خالدًا رضي الله عنه بعد أن وجد عليه من بعض تصرفاته، وذلك حينما أرسله إلى بني جذيمة، فقتل وأسر دون تثبت، حتى قال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، قالها مرتين، وما زال يستعمله بعدها، وهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي شهد له صلى الله عليه وسلم بصدقه وأمانته، فقال (ما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ألا تستعملني؟

فضرب صلى الله عليه وسلم بيده على منكب أبي ذر وقال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: (وتقتضي السياسة الشرعية المستمدة من السيرة النبوية استعمال الأصلح في الولايات، وإن كان في الرعية من هو أفضل منه في العلم والإيمان، وقد وضّح القرآن أهم صفتين لتولي الأعمال، فقال {إنّ خيرَ من استأجرتَ القويُ الأمين} والقوة تختلف بحسب تنوع الولاية، فحاجة الولاية العسكرية إلى الشجاعة والخبرة بالحرب، وحاجة الولاية السياسية إلى العلم بالعدل، ومعرفة أحكام الشرع، والقدرة على تنفيذها، واجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل، لذا يحتاج الخليفة إلى الاستقصاء عنهم، وهو مكلف بتعيين الأمثل فالأمثل، إن لم يجد من تتوافر فيه الصفتان) .إن مراعاة المصلحة العامة في هذا التفاضل يحتاج إلى قوة وأمانة، تعلوان على صلات القرابة والصداقة والمصلحة الخاصة، وهذا ما توفر في الخلافة الراشدة عمومًا، يقول أحد الباحثين: (ولم يدع الخلفاء الراشدون أثرًا لعواطفهم في تعيين الولاة، بل راعوا المصلحة العامة، حتى إن عمر بن الخطاب عين أبا مريم الحنفي على قضاء البصرة، وهو قاتل أخيه زيد بن الخطاب في موقعة اليمامة) .هذه الندرة في الثنائية (القوة، والأمانة) جعلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يردد مرارًا (اللهم أشكو إليك قوة الخائن وضعف الأمين)

وتمنى في يوم من الأيام أن يكون ملء مجلسه رجال من أمثال سعيد بن عامر الجمحي، ومن الطريف أن نعلم أن سعيدًا رضي الله عنه ولي لعمر حمص (الكويفة) تشبيهًا لها بالكوفة، لكثرة شكوى أهلها على ولاتهم وعمالهم، ولقد شكا أهل الكوفة سعداً (القوي الأمين) فعزله عمر حسمًا للفتنة والشر وقال: (إني لم أعزله لعجز أو خيانة) . ومن الطرائف أيضًا ما ذكره صاحب العقد الفريد، أن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه رجال من أهل الكوفة يشكون سعدًا قال: (من يعذرني من أهل الكوفة، إن وليت عليهم التقي ضعفوه، وإن وليت عليهم القوي فجروه، فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقواه وعليك فجوره، والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره، فقال صدقت، أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم) .وفي هذا الصدد ذكر ابن خلدون في مقدمته مذاهب الناس في استخدام الأكفاء غير الثقات، وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانو مؤهلين، لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من تجاوزاتهم، أما إذا كان لا يحسن شيئًا فماذا تعمل به. إن انخزام هذه الثنائية في واقع الناس اليوم جعلهم يفشلون في كثير من مشاريعهم الخاصة والعامة، فإن كثيرًا من المشاريع التي تولاها أمناء ليسوا أكفاء باءت بالفشل، فلم يشفع لها أمانة القائمين.إن من ملامح القوة اليوم (التخصص)، فلم يعد مصطلح (العلامة الموسوعي) له وجوده في عصر التخصصات الدقيقة التي انتهت إليها أمهات العلوم والفنون والمعارف، وبالتالي إذا كان التخصص ضروريًا، فاحترام آراء المتخصصين هو ثمرته الفعلية، وإلا لا معنى للتخصص إذا لم يؤخذ بآراء المتخصصين.إن من أكبر المشكلات التي نعانيها اليوم أن يتجاوز العالم حدود عمله ومقدرته، ويدّعي علم ما لم يعلم، ويقتحم الميادين من ليس أهلاً لها، ويجتهد من ليس مؤهلاً للاجتهاد، بدعوى (تحصيل الأجر الواحد للمخطئ)، ونسي هذا أو تجاهل أن الأجر حال الخطأ، والأجرين حال الإصابة، تترتب على مقدمة أخرى وهي كون الاجتهاد صادرًا من أهله في محله.وكذلك فإن من عناصر القوة في التخطيط المعلومة الصحيحة الدقيقة، التي تمكن من التصور الصحيح، الذي هو أساس التخطيط السليم، ولا يخفى على المهتمين عناية المؤسسات المتقدمة علميًا وبحثيًا، بتأمين روافد مستمرة للمعلومات، من إحصاءات واستطلاعات وأبحاث ودراسات، ولقد ساعدت التقنيات الحديثة بالتزود والاطلاع بشكل أفضل من ذي قبل على المعلومة.إن التضليل الذي يحصل بسبب نقص المعلومات أو ضآلتها أو تقادمها، يجعل التخطيط متخلفًا عن الواقع وبعيدًا عن متطلبات العصر، ولإن هذه الثنائية المنشودة هي الضمان الوحيد للبشرية اليوم، وصمام الأمان لها ـ بعد أن تضخمت القوة كثيرًا وضعفت الأمانة والقيم ـ من أن تنفلت القوة من عقالها دون ضابط أو كابح، فمع غياب القيم الأخلاقية وانكماشها، واضطراب الأطر المرجعية لها، فتارة المصلحة وتارة العنصرية...إلخ، يُخشى من أولئك الذين يملكون أسرار القوة وآلياتها، أن يجعلوا العالم على (كف عفريت)!!!! كما يقولون، لأن هذا المارد ـ القوة ـ إذا خرج من قمقمه دون ضابط القيم (الأمانة)حطم ودمر، وطغى وظلم، ونحن نرى اليوم صورًا متعددة لهذا الانفلات، لقد سخرت القوة لتدمير الشعوب، واستغلال ثرواتها، وتركيع الأمم، وطمس حضاراتها، وإذابة هوياتها وخصوصياتها...إلخ.

إن الأمانة قيد القوة وضابطها ومرشدها، لنتصور مملكة سليمان مثلاً، وهي من أعظم الممالك قوة وتسخيرًا، فقد عرض أحد جنودها أن يأتي بعرش بلقيس من آلاف الأكيال ببرهة من الزمن، لا تتجاوز جلسة سمر قصيرة، فقال { أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } ثم انطلق الذي عنده علم من الكتاب فجاء به بطرفة عين!لنتصور هذه القدرات التي سخرت لسليمان، إذا لم يكن لها ضابط من دين أو قيم، فما الذي بإمكانها أن تفعله؟ لقد قابل سليمان هذا التسخير العظيم بقوله { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }.وفي الختام إذا أدركنا أهمية هذه الثنائية، فعلى المؤسسات التعليمية والمهنية والبحثية على اختلافها أن تقوم بدورها في تدعيم عناصر القوة في الأمة، وبالمقابل على المؤسسات التربوية والدينية والاجتماعية بكل أنشطتها أن ترفع من سوية الأمانة والإحساس بالمسؤولية، وهذا يأخذنا بدوره إلى حقيقة مهمة تقول لكل مواطنٍ أردني على أرض هذا البلد الطهور ونحن نشهد العرس الديمقراطي الوطني (الإنتخابات البرلمانية) : إنتخب... على أساس القوة والأمانة ( إنَّ خيرَ من استأجرتَ القويُّ الأمين ).



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات