الشاشة التي لم تكبر


تحتلُّ ذكرياتٌ جميلة دافئة مساحة في قلوبنا وعقولنا نحسبها جزءاً حيوياً من سيرتنا الذاتية نحاول الوصول اليها عبر شاشتنا الاردنية بين الحين والأخر كلما اصاب الذاكرة الامّ قصوراً يمنعها من استجماع ذاتي لقواها في استرداد ما نهب اثناء توزيع الغنائم , وفي كل محاولة يحجبنا عن اللقاء حاجبٌ قوي، فمن برنامج هزيل عن الوطنية أو حوار راكد عن دور المواطن في حفظ الامن الى حديث مع سياسي سافر أبرصه الفساد , سجنٌ اعلامي خلف قضبان السياسة في حين أن محاولاتنا الشاعرية تقول وما حب الديار ملكن القلب ولكن حب من سكن الديار , فأي عزلة اعلامية تلك التي استوطنت أركانها وأي توبة صادقة ننتظر لتجبّ ما قبلها.

من اللائق ذكره هنا أنّ المقام لا يتّسع للحديث بإسهاب عن ذلك ولكن الضرورة تُملي انْ ننقد من منظور عام يراقب قد يبعد عن التخصصية العلمية مسافة ما .فمن الواضح أنّ الشّاشات الاعلامية المحيطة كَبُرت و تَطوّرت وازدهرت في كلِّ أرجاء المعمورة باستثناء خاصتنا الاردنية فما زالت هذه الصّغيرة رهينة المَحَابِس ، الفقر والبطالة والفساد ( فقر الكفاءة الاعلاميّة وبطالة العمل وفساد المعلومة) ، وهي من هذا الجانب تَبْتعد مسافات شاسعة عن الصناعة الاعلامية الحديثة السريعة و الهادئة والمقنعة والتي تواكب زمان الحدث وتملأ مكانه ، و من جانبٍ اخر فهي تغلق شباك التذاكر امام الجمهور الوطني المتشوّق.

وبالرّغم من الوفرة في الكفاءات الاعلامية والقامات الوطنية الكبيرة في بلدنا من مستوى مقدم برامج الى المحاور والمحلل لتصل الى العبقريات المتنوعة في مجالات الثقافة والاقتصاد والسياسة والدين الا أن هناك عناداً مستمراً من هذه المؤسسة على الاستقطاب والحصر ضمن دوائر التعيين المدني ( المعرفة الخاصة-" وهذا لا جدال أنّ منسف الواسطة قد طاله او سّهرة المصلحة قد هدّت أركانه " )- والأخرى هي دائرة العقد الوظيفي شاملا مقدمي برامج وضيوف تم لمّ شملهم على نظرية من يؤيد ويدعم الرأي الرسمي. وهذا في الحقيقة من الاسباب التي أدت الى عزوف الجمهور منذ فترة زمنية طويلة عن مطالعة الخبر و متابعة المعلومة من هوائياتها و اللذان يثقلان على المستمع مللاً ورداءةً, وما يزيد الامر سوءاً هو استحداث اعمال و برامج تسقط الواحدة تلو الاخرى وتذهب ضياعا لأنها ببساطة التعبير لم تحاول ان ترتقي الى ما أرتقى اليه الاعلام المجاور والعالمي من سبقٍ يلامس الواقع وحداثة تحترم العقل و الوقت ومصارحة تريح النفس ومن تلك الاعمال نرى المطبخ السياسي و هذا المساء ووسط البلد وغيرها من برامج وأعمال تلفزيونية لا تليق بمستواه الذي عهدنا .

وكأن الموضوع هو تراشق بين المذيعين وجل اهتمامهم تفصيل بالإبرة والخيط للبرامج لتناسب القدرات الذهنية المتواضعة التي يقتادوها الينا , لا تنافس وسباق الى الفكر والمعلومة أو صراعٌ اعلامي مع ما يدور حولنا من تطور مذهل خاطف ، في حين أننا لا نطمح في معرض الحديث هذا لهدفٍ اكبر هو احتلال مكانة اعلامية محترفة اقليمياً وعالمياً,و بهذا ستكون المخرجات فاسدة اعلاميا ، سخيفة ومتأخرة . وإذا ما عرّجنا على ضيوف الحلقات نرى التكرار المَقيت لذات الشخصيات المزعجة "المقرفة" و لا غرابة حين ندرك أنّها تقتدي بالصورة الاعلى على مستوى اسس تعيين الحقائب الوزارية فالتعيين حصري والحوار هاوٍ ومبتور والمعلومة سطحية وكأن المتلقي يستمع لتصريح رسمي للوزارات المعنيّة , لا رأي اخر جديد يحاور ولا قدرة في الاصل على الحوار , واستهانة بالإمكانيات العالية المتوفرة لدى المتلقي فكرا وثقافة وأدوات اطلاع فيخاطبونه وكأنه لا يملك ادنى وسيلة اتصال مع العالم الخارجي الا شاشتهم. قد يقول البعض أنّ هذا حال الاعلام الرسمي ، جامدٌ وملتزم , والسؤال هل هذا الجامد والملتزم حقق مأربه ورؤيته , في هذا نحتاج الى دراسة محايدة على عينة عشوائية ولا ضير أن يُخصص لتلك الدراسة من رصيد بعض البرامج الهاوية أن اقتضت محدودية النفقات , ولكنني جازم قبل ذلك انّ النتائج ستكون مخيبة لآمال المؤسسة الاعلامية من مديرها لمعدّها لمخرجها...سنوات اعلامية عجاف تستمر ولا تنتهي.

الأردنيون لا يهزّهم حوادث اجرامية ارهابية وهم مؤمنون أصلا بالحرب على الارهاب ومدركون أنّ الخسائر منطق المعادلة ولكنّ المزعج على سبيل المثال ما نشاهده من سلسلة اللقطات العسكرية لجنودنا في الميادين والتي بثها التلفزيون على مدار الساعة خلال ايام الحوادث وتحوي معلومات ذات خصوصية للوحدات والأفراد بالصوت والصورة تتباعد احيانا ولكنها مفهومة و قابلة للتحليل والبناء , أضع اللوم على بثها على مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة وهم يعلمون أنه في تاريخ مضى كانت الجاسوسيّة تُخَطّط لتحصيل مثل تلك المعلومات ، ناهيك أن هناك حدٌّ وحرمة يجب أنْ يقف عندهما الجميع عندما يتعلّق الأمر بتحرير المعلومة العسكرية الامنية قبل تداولها . ثمّ أنّه ما هي الغاية من وراء ذلك ، هل هي اظهار أنّ الجندي الاردني هو رجل مسلم مسالم انساني امْ لرفع المعنويات العامة أم استعراض للقوة ,رسائل لمبتدئٍ في الاعلام لا خلاف أنّها لم تصل ولن تصل كما طمحوا مع العلم أنّ هناك تحرير أفضل متوفر وبذات التكلفة.

ما نريده ان يطّلع المسئولون على الفضائيات العربية ويتعلّموا ولو قليلا كيف يتم اعداد وتنفيذ وإخراج البرامج الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية وحتى الرياضية وغيرها , كيف يحاورون عقل المتلقي وقلبه في آن واحد , كيف يصلون بفكره الى آفاقٍ بعيدة يقنعونه بفكرتهم بهدوء وسلالة دون أن يمس ذلك هيبة الدولة , يبحثون في كل جزئية ترتبط يشرّحونها يعرضونها ويأتون بالاجابة قبل أن يخطرها البال وقبل أن يخرج احد عن القانون, كيف يتقمصون الشخصيات ويحللون التاريخ من وجهة الرأي والرأي الاخر وكيف ينفّذون باحترافية محترمين انفسهم ووزنهم وتنوع الوزن والمستوى للمشاهد والمستمع قبل ان يصرّح أحد أن الأمن الوطني خطّ احمر , كيف يكون الفنّ في التعامل مع الحدث فيدخلون عليه من مباحث التاريخ والاجتماع والجغرافيا قبل ان يقرر سفيهٌ رفع الاسعار .

و الغير مستبعد أنّ جزءا كبيرا منهم جمهور لتلك المحطات.نريد منهم أنْ يخرجوا من الصندوق ولينظروا حولهم ثم بعد ذلك ليضعوا خطة اعلامية عصرية ذكية للتعامل مع الحدث وبأسلوبٍ يوائم وثقافة وفكر الملتقي ويستقطبه ، الاردني الذي كان له الدور في تأسيس الاعلام في دول مجاورة سنين مضت , لانّ ما نراه الان ليس سوى مهزلة و استخفافٌ بالعقول.

هم بهذا يعبثون بركن من الذكريات ما كان يبقينا برباطٍ من حبل سري مع هذه الشاشة على وشك أن ينقطع ويشوّشون الصور الجميلة القديمة ونحن شاحبي الوجه آسفين نتألم لنرى هذه الصغيرة لم تنضج و قابعة في مؤخرة القافلة الاعلامية عاجزة مستسلمة . التغيير الايجابي يا سادة لا يقاس بمعيار الماضي السيئ بل بفاعليته وأثره في الحاضر المتقدّم...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات