ثقافة الاستبداد والفساد


من اخطر نتائج تحكم الأنظمة الشمولية لفترة طويلة بمناحي الحياة المختلفة، ظهور ثقافة جديدة مشوهة تعطل مفاعيل القوة والجدية في المجتمع. إن أنظمة الاستبداد لا تهدر إمكانيات البلد المادية إسرافا وبدارا وتعيق الوصول إلى الأهداف المفترضة فحسب، بل أنها تطيح بالعقل الفعال وتشله وتحول الناس إلى آلات حديدية مطوعة بلا مشاعر ولا خيال مبدع ولا قدرة على التصور والتخطيط والمبادرة ؟
الفساد يتحول في الدول التي يحكمها الاستبداد إلى مؤسسة لها آلياتها المتنوعة ومصادر قوتها المتعددة، كما إن تغلغل الفساد في أجهزة الدولة ومؤسساتها بحيث تصبح مرتعًا له بدلاً من أن تكون حائط صد ضده. يترتب على كل ذلك أن يتحول الفساد إلى ثقافة هي ثقافة الفساد، وهى تتمثل في منظومة القيم السلبية التي تسوِّغ الفساد وتبرره فالعلاقة المباشرة بين الفساد والاستبداد تتمثل في"أن الفساد عندما يستشري ويترسخ فإنه يعمل على حماية نفسه، وذلك بإبقاء كل الهياكل التي أنتجته على حالها، فلا تغيير في القوانين ولا تعديل في اللوائح ولا تطوير في السياسات، لذلك نجد أن المسئولين الحكوميين غير مبالين بالتغيير وذلك ضمانا لاستمرار المناخ الذي يضمن لهم المزيد من التربح واستغلال النفوذ ".وهى تعنى قبول أفراد المجتمع بصفة عامة لكل حالات الفساد سواء كانت صغيرة أو كبيرة واقتناعهم بوجود الفساد والتعايش مع صوره وأنماطه المختلفة بل وإفساح المجال لها، ويصبح ظاهرة طبيعية يتوقعها المواطن في كافة تعاملاته اليومية و المسئول الفاسد هنا يكون اكبر من القانون فيحاول ترسيخ هذه الثقافة بخلق وعى زائف لدى المواطنين بإقناعهم انه ليس في الإمكان أبدع مما كان وتتحول مؤسسات الدولة الأساسية إلى مؤسسات يلفها الفساد، فالشخصيات المهمة والوزراء وأعضاء المجموعات البرلمانية يتحولون إلى جزء مهم في جرائم عديدة كإهدار المال العام والتعاون لتسهيل المخالفات وعلى الرغم من فساد كبار الموظفين تكون هناك توجهات مطالبة الجماهير بضرورة التضحية وربط الأحزمة من اجل مشروع قومي، فلا يجدون إمامهم إلا التكيف مع أنماط الفساد دون محاولة تغييره والإصابة باليأس والإحباط، وحتى التشريع الذي يتصدى للفساد قد وضع من قبل برلمان يكون أعضاءه الذين قدموا بالتزوير بأشكاله المختلفة جزءا من الفساد " ولا غرابة في ظل هذه الأجواء التي يخلقها الاستبداد من احتكار السلطة واستخدام الوسائل المختلفة لإدامة نفسه من التجهيل إلى التفريق إلى استخدام الأعوان من مخبرين وامن وجيش وفتح السجون وتعذيب البشر وسحق الإرادة وخنق الحرية وإشاعة الانحلال والفجور والتلهي بتوافه الحياة أن يعيش المواطن مغترباً عن ذاته، مستباحا ومعرضاً لمختلف المخاطر." فهو على الهامش تشغله لقمة العيش، لا يجد مخرجا سوى الخضوع يجتر هزائمه الخاصة والعامة وهو مغلوب على أمره، عاجز عن التغيير أو تحدي قوى الاستبداد".؟
وتفرز ثقافة الاستبداد نمطا يطابق طبيعتها، وهو تحقيق مصالحها الفئوية الخاصة، على حساب المصالح العامة، وهي بذلك تحدث انشقاقاً كبيراً في المجتمع يكرس حالة الفساد ، وتحول ساحة المجتمع إلى ساحة حرب بين مختلف الأفكار والاتجاهات، دون وجود لتعايش وتفاهم يضمن حالة التكافل والتعاون، وهي عقلية يسميها البعض بعقلية (الجُزُر المنعزلة) حيث لا تهتم كثيراً بخلق عمل جماعي ناجح، ولا تعبأ أساساً بالصالح العام، بل كل الاهتمامات موجهة في اتجاه صالحها الفردي.وتعمل الدولة المستبدة على أن تبقي على الفساد نهجا ومذهبا ونمطا معيشيا، لأنه حين يعم الفساد لا يعود بوسع أحد التحدث عنه أو الاعتراض عليه طالما أن دائرته اتسعت فشملت شبكة واسعة من مصلحتها غض النظر أو السكوت عما يدور، إذ يلجأ المفسدون إلى إشاعة نهجهم الخاص على أوسع نطاق ممكن بين ضعاف النفوس، عملا بالقاعدة القائلة أنه إذا أراد الفاسد حماية نفسه فإن عليه أن يفسد سواه أيضا، فما أن يعم الفساد و يتورط فيه الكل حتى تتكون آلية تضامنية تلقائية بين المفسدين يتستر فيها الكل على الكل، فلا ترى، بعدها، من هم عناصر الفساد أو الفساد نفسه.
وبذلك لا يصبح أمر الفساد محصورا في بضعة أشخاص فاسدين إنما يتحول إلى منهج متكامل يوفر أصحابه البيئة المناسبة لتعميمه وتحويله إلى وضع أليف يصبح معها مجرد النقاش حول الفساد ضرب من العبث، حينها يفقد الفرد قدرته على المقاومة بالتدريج، وتعلو لديه نوازع الأنانية، ويتخلى عن مبادئه وقيمه كما يتخلى عن احترامه للقانون والنظام، ثم ينتهي به الحال إلى التخلي عن إنسانيته واحترامه لذاته وللآخرين، ومع انتشار الفساد والمفسدين، واتساع نطاق الأرباح الخفية الناجمة عنه، فإن العمل الشريف الجاد يفقد قيمته، بل إن القانون نفسه يفقد هيبته واحترامه. هذا، فضلاً عن أن للفساد تكلفته الاجتماعية التي تتمثل في انخفاض معدلات الكفاءة في تخصيص الموارد الاقتصادية، وهو ما يؤدى إلى تخفيض معدلات التنمية الاقتصادية وعدالة التوزيع للدخل القومي
ومن ملامح ثقافة الاستبداد "إن تطفو المراسم الشكلية ومظاهر الأبهة والسلطان بهدف فرض الهيبة التي تتحول إلى تقديس وخوف. وبالطبع فلا مكان هنا للمساءلة أو المحاسبة أو المطالبة، فقط السماح بالتماس الرضا أو تجنب الظلم أو تحصيل بعض نعم السلطان و يذعن الناس للسلطة بسبب التسلط وبسبب أجهزة العنف التي تملكها السلطة وأساليب القهر والقمع وتهديد مصادر الرزق وتبرز هنا مظاهر الرشوة والمحسوبية والتي تشكل خطورة بالغة على سلامة الجسم الاجتماعي، ذلك أنّها تؤجّجُ الشعور بالظلم والقهر، وتُنهك الفئات الفقيرة ومتوسّطي الحال، وتجعلُ حقوق المُواطن كالشغل والسفر والاستشفاء والسكن قابلة للبيع والشراء، وتفتحُ الأبواب أمام الانتهازيين الذين لا همّ لهم سوى الإثراء على حساب غيرهم من المُستحقّين، ويُداسُ على سائر قيم التراحم والتضامن والتعاون، وتُنتهكُ أبسطُ حقوق الإنسان، ويسودُ قانونُ الغاب، وتزدهرُ نزعاتُ الانتهازية والوصولية والابتزاز والطمع والجشع، وتتغذّى الأنانيّةُ المُفرطةُ عند الكثيرين إلى درجة إلغاء الآخر.
وتحتضن حالة الاستبداد السياسي الذي تعيشه الأمم والمجتمعات والجماعات"استبدادا ثقافيا واجتماعيا يختمر في نفوس البشر، ويتحول إلى حالة تطبع أساسي في السلوك، وتعود على التمسك بالأحادية، ورفض الاستماع للرأي الآخر، وقطع الطريق أمام الحوار والتفاهم؛ ففي حالات ترسخ روح الاستبداد والتسلط يصبح الحوار منعدما، وإذا كان فعلى الأغلب يكون عقيما؛ ذلك أن الوضع ليس إلا سيطرة شمولية للرأي الواحد، متمثلاً بالسيطرة المطلقة للأحادية المنفردة, لقد أوجدت ثقافة التسلط شخصيات تفتقر إلى التوازن النفسي؛ فهي قد تستعلي استعلاءً كبيراً على الآخرين، إلا إذا كانوا من ذوي النفوذ والقوة، وهنا نجد خضوعاً وممارسة لأساليب الدونية ولكن ما تحققه ثقافة الاستبداد هو تحطيم الوجود الفكري للإنسان، عبر قطع طرق التواصل؛ لذلك يصبح الفرد في هذه الأجواء مجرد هامش جامد على أطراف الجغرافيا، لا يفهم ولا يرى ما يحدث على حقيقته؛ فيفقد القدرة على التقييم السليم والتعرف الصحيح؛ ذلك أن أحادية الفكر والانغلاق المتسلط يمارسان عادة بصورة لاشعورية، دون محاولة التعرف العلمي الهادئ على ما يريد أن يقوله الآخر"ويوضح الكواكبي في كتابه " طبائع الاستبداد " أثر الاستبداد على الأخلاق وعلى دوره في خلق ثقافة جديدة للمجتمع قائلا:"الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها, والاستبداد يسلب الراحة الفكرية فتمرض العقول ويختل الشعور, واقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس انه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة النفاق والرياء" ولهذا تشيع في أجواء الاستبداد ثقافة السكوت وتنتشر أمثال ما انزل الله بها من سلطان وكلها تحض على الصمت والسكوت والقبول بالموجود .؟؟؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات