سوء الإدارة في الأردن .. العقبة والملكية نموذجان صارخان


لعلّ من أكثر الأمور مدعاة للحزن في بلدي أن يسمع مواطن بمشروعات وخطط، يبني عليها أملاً وراء آخر، ثم ينتظر سنة تلو الأخرى كي يحقق ولو بعضاً من هذه الآمال، ثم تمر السنون دون أن يلمس على أرض الواقع شيئاً، ولعلّ المحزن أكثر من ذلك أن تفتح عينيك على مؤسسة ولدت قبلك بنحو عقدين؛ فتكبر أنت، في الوقت الذي تزداد هي تزداد شباباً وتألقاً إلى أن تصبح أيقونة بين نظيراتها، ثم لا تلبث أن تهوي فجأة وكأن عيناً أصابتها.

يقال إن الفشل الإداري قد ينتج من عدم فهم المديرين لأهمية الأساليب الإدارية الناجحة، أو لعدم قناعتهم بجدواها ومن ثم عدم تطبيقهم لها, أو لعدم اطلاعهم على التجارب الإدارية الناجحة أصلاً، غير أن في الأردن نموذجين للفشل لا تنسحب عليهما هذه الأسباب، وهما منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، وشركة الخطوط الجوية الملكية الأردنية، إذ تكاد تشعر أنه جيء بإدارات فقط من أجل التخريب أو التطفيش، فبرعوا أيما براعة.

عام 2001 تأسست سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، لإدارة وتنظيم منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة التي أنشأت في العام الذي سبقه، وذلك بهدف جعلها مقصداً استثمارياً وسياحياً عالمياً على البحر الأحمر، وللمساهمة في تعزيز القدرة الاقتصادية للأردن؛ هكذا قيل وقتها.

إلا أن العقبة ومنذ تأسيس السلطة لا تفتأ تشهد احتجاجاً تلو الآخر، فعشرات الاعتصامات والإضرابات العمالية التي قابلها في كثير من الأحيان تعنّت من قبل مسؤولي السلطة، كبدت الاقتصاد الوطني خسائر مالية بمئات الملايين، هذه الاحتجاجات التي لا يبدو أنها ستتوقف بسبب التخبط الذي تعيشه إداراتها المتلاحقة، أضرت بسمعة المنطقة الخاصة كمقصد سياحي واستثماري، فبدأ المستثمرون يترددون قبل إقامة أي مشروع في منطقة تعج بالاضرابات العمالية، خاصة وأن هذه الاعتصامات والاحتجاجات تزامنت مع أحاديث مطولة عن فساد إداري ومالي نخر شركة تطوير العقبة؛ الذراع الاستثماري للسلطة، إذا توالت الشكاوى عن تجاوزات وهدر للمال العام واستغلال للوظيفة.

وكانت تقارير ديوان المحاسبة كشفت أن الرواتب في شركة تطوير العقبة تتراوح ما بين 9 - 3 آلاف دينار لرئيسها التنفيذي وعدد من المدراء فيها، إضافة للعديد من التجاوزات المالية والإدراية، وهو ما دفع للمطالبة بإلغاء الشركة ودمجها مع سلطة العقبة، فالشركة تنفق عشرات الملايين سنوياً لتمويل رواتب ضخمة ومؤتمرات تعقدها شركة يفترض أنها أنشئت لتطوير مدينة لم يلمس أهلها من التطوير سوى المكاتب الفاخرة والسيارات الفارهة للعاملين في الشركة، في حالة من البذخ لم يعهدها أهل المنطقة الذين تفاءلوا بإنشاء هذه الشركة أول الأمر لتخيب آمالهم شيئاً فشيئاً.

كل هذه الأمور دفعت تجاه المطالبة بإعادة تقييم تجربة المنطقة الخاصة، وذلك بعد أن بات واضحاً حجم الاختلالات والتجاوزات التي شابت مشاريعها، خاصة وأن الإدارات التي تعاقبت على السلطة دأبت على سياسة ترحيل الأزمات والملفات العالقة، الأمر الذي جعل من الطموح بجعل العقبة بيئة منافسة وجاذبة للاستثمارات حلماً بعيد المنال.

بعد 16 عاماً من إنشاء منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، لا أثر لأي صناعة في العقبة التي تحولت إلى بؤرة للتهريب، ناهيك عن أنها تحولت إلى منطقة سياحية للمقتدرين فقط، فهي تفتقر إلى مشاريع تخدم محدودي الدخل، فالمشاريع والمنتجعات والشاليهات الفاخرة تم تصميمها لاستقطاب ذوي الدخول المرتفعة فقط، أما أصحاب الدخول المتوسطة فالأماكن المخصصة لهم تكاد تكون معدومة.

إلا أن السؤال الجوهري هو ما الذي تغير على العقبة عقب تحويلها إلى منطقة اقتصادية خاصة، سوى بعض الأبنية الفخمة للشركات التي يفترض أن الغاية منها تطوير المدينة؟ وما هي نسبة مساهمة المنطقة في الناتج القومي الإجمالي؟ وطبعا لن نتسائل عن المبالغ التي رفدت بها الخزينة لأنه بات معروفاً أنها تستنزف الملايين دون أن تضع فلساً واحداً، ولعل السؤال الأهم من كل ذلك: إلى أي مدى أسهمت المنطقة في تنمية المجتمع المحلي، ولا نقول التنمية الاقتصادية في الأردن؟؟

المثال الآخر الذي لا يقل بؤساً هو شركة الخطوط الجوية الملكية الأردنية، التي ظلت لأكثر من أربعين سنة مؤسسة رائدة تدر أرباحاً وترفد الزينة بالأموال، إلى أن "هبط" قرار بخصخصة الشركة نهاية العام 2007، لتبدأ بعدها بالتحول من مؤسسة وطنية رابحة إلى شركة خاسرة ومترهلة، إذ ما لبثت منذ ذلك التاريخ أن بدأت بالخسارة سنة بعد أخرى، وهو ما أوقعها في مشاكل مالية ضخمة، الأمر الذي هبط بقيمة سهم الشركة من ثلاثة دنانير إلى أقل من 50 قرشاً، قبل أن تتدخل الحكومة لرفع مساهمتها في رأسمال بمبلغ 50 مليون دينار مطلع العام 2015 تفادياً لتصفية الشركة، لتعود وتضخ 100 مليون إضافية، على أمل إيقاف النزيف المستمر فيها.

الملكية وصلت إلى ما وصلت إليه الآن بفعل تراكمات من الأخطاء ارتكبتها الإدارات المتعاقبة منذ مطلع العام 2008، لعلّ أبرزها قيامها ببيع شركات ربحية كانت تابعة لها، كشركات التزويد بالطعام والصيانة وغيرها، وهي شركات كانت تدر أرباحاً سنوية تفوق الثمن الذي بيعت به، ثم وقعت بعد ذلك عقوداً مع عدد من شركات الخدمات، أهدرت فيها الملايين من أموال الشركة.

كما أن غالبية الطائرات المستأجرة تم استئجارها بعقود استئجار تشغيلي، بينما كان الأصل أن يكون الاستئجار لغايات التملك، وهو ما تفعله جميع شركات الطيران في العالم، ما أدى إلى استنزاف مئات الملايين من أموال المساهمين في الشركة، وهذه الطائرات لم يكن لها داع أصلاً، إذ إن كثيراً من خطوط التشغيل تتكبد خسائر كبيرة، بعد أن تم فتح العديد منها بقرارات اعتباطية ودون تخطيط، كما هو حال المحطات الخارجية التي تم استئجار مكاتب لها في مناطق راقية تعجز عنها كبرى شركات الطيران في العالم.

أوضاع العاملين فيها قصة أخرى، فمن أمن وظيفي مفقود، وغياب للعدالة في مستوى الرواتب، مروراً بالافتقار للتأهيل والتدريب، واختلالات في نظام الموارد البشرية، وترقيات مفاجئة وغير معقولة لموظفين تربطهم صلات بمتنفذين داخل الشركة أو خارجها، وانتهاء بالفصل التعسفي لعدد من العاملين بسبب خلافات شخصية مع مسؤولين في الشركة، هي غيض من فيض ما يحدث داخل أروقة الشركة التي طالما كان الحصول على وظيفة فيها حلماً لشريحة واسعة من الأردنيين.

في محاولة لتخفيف الضغط عل الشركة، أعلن مجلس إدراتها مؤخراً عن تحقيقها أرباحاً صافية بقيمة 16 مليــون دينار، إلا أن مصادر من داخل الشركة تقول إن ما تم الإعلان عنه ليس سوى أرباح وهمية، إذ إن هناك ثلاثة أقساط مستحقة على الشركة خلال عام 2015 لطائرات بوينج 787 بقيمة 27 مليون دينار، لم يتم تسديدها من أجل إيهام الرأي العام بتحقيق أرباح، وبالتالي فإن خسارة الشركة كانت ستبلغ 11 مليون دينار فيما لو التزمت بتسديد هذه الأقساط، وهو ما يعني بالضرورة خسارة إضافية في أموال الضمان الاجتماعي الذي ضخ 12 مليون دينار ضمن العملية التي قامت بها الحكومة العام الفائت لدعم الشركة بـ 100 مليون دينار، خاصة بعد أن حصلت مؤخراً على قرض تجمع بنكي بقيمة 275 مليون دولار، في عملية لتدوير الديون المتراكمة على الشركة، وهو ما سيزيد من حجم هذه الديون نتيجة للفوائد المترتبة على هذا القرض.

خطورة الفشل الإداري تكمن في أن تبعاته لا تعود على المدير الفاشل وحده، بل إنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى فشل المؤسسة التي يديرها وربما القضاء عليها، وهو ما يهدد مصير العاملين فيها أو أولئك الذين يبنون آمالاً على نجاحها، ولذلك فإن تحقيق الحلم المنشود في العقبة، وإنقاذ الملكية والعودة بها إلى ما كنت عليه قبل 2007، هما مطلبان على درجة كبيرة من الأهمية، وهما غايتان ليستا بتلك الصعوبة، فكل عوامل نجاحهما متوفرة باستثناء شيء واحد، وضع الصالح العام نصب أعين إداراتهما.
Tariq.hayek@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات