المحافظة على المال العام


في القرآن الكريم قرن الله تعالى بين الأمانة والعدل كأعظم أركان الدولة لاستقرارها وتقدمها ورخائها؛ فقال عز من قائل:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).صدق الله العظيم .
والخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نموذج في العدل والأمانة وقد استفاض كتاب السير والتراجم قديما وحديثا في تقصي عدله في الحكم وأمانته ولا سيما في المال العام وعفة طعمته وأهل بيته عن ذلك ، وكفاك به فخرا وشرفا ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه :نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه عدل . وما قاله فيه ابن مسعود: كان إسلام عمر - رضي الله عنه - عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر، وإني لأحسب أن بين عينيه ملكا يسدده .
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نموذجًا فريدًا للحاكم الذي يستشعر مسئوليته أمام الله وأمام الأمة، فقد كان مثالا نادرًا للزهد والورع، والتواضع والإحساس بثقل التبعة وخطورة مسئولية الحكم، كان عمر عفيفًا مترفعًا عن أموال المسلمين، حتى إنه جعل نفقته ونفقة عياله كل يوم درهمين، في الوقت الذي كان يأتيه الخراج لا يدري له عدا فيفرقه على المسلمين، ولا يبقي لنفسه منه شيئا.
ذكر الماوردي عن نزاهة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أنَّ الحسن قال: بينما عمر بن الخطاب يمشي ذات يومٍ في نفرٍ من أصحابه، إذا صبيَّةٌ في السوق يطرحها الريح لوجهها من ضعفها، فقال عمر: يا بؤس هذه، من يعرف هذه ؟. قال له عبدالله: أو ما تعرفها ؟. هذه إحدى بناتك، قال: وأيُّ بناتي ؟. قال: بنت عبدالله بن عمر ، قال: فما بلغ بها ما أرى من الضيعة أي الضعف ؟. قال: إمساكك ما عندك ، قال: إمساكي ما عندي عنها يمنعك أنْ تطلب لبناتك ما تطلب الأقوام، أما والله ما لك عندي إلا سهمك مع المسلمين ، وسعك أو عجز عنك، بيني وبينكم كتاب الله. وكان يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم : إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف . وخرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى ألمًا في بطنه فوصف له العسل، وكان في بيت المال آنية منه، فقال يستأذن الرعية: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فإنها علي حرام، فأذنوا له فيها . كان رضي الله عنه يعف عن شم طيب عام من بيت مال المسلمين: روي أنه أتى إليه بمسك من بيت المال فقسم بحضرته فسد على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما يتجاوز إليك ريحه فقال: وهل يراد من المسك إلا رائحته .
يقترض من آحاد المسلمين وتحت يده مال الدولة : أرسل عمر رضي الله عنه إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة درهم، فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك بيت المال، ألا تأخذ منه ثم تردّه ؟. فقال عمر: إني أتخوّف أن يصيبني قدري، فتقول أنت وأصحابك: أتركوا هذا لأمير المؤمنين؟. حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة، ولكني أتسلّفها منك فإذا متّ جئت فاستوفيتها من ميراثي .
وجّه عمر رضي الله عنه إلى ملك الروم بريدا فاشترت امرأة عمر، أمّ كلثوم بنت عليّ بن ابي طالب رضي الله عنه ، طيبا بدينار وجعلته في قارورتين وأهدته إلى امرأة ملك الروم، فرجع البريد بملء القارورتين من الجواهر ، فدخل عليها عمر وقد صبّته في حجرها فقال: من أين لك هذا ؟. فأخبرته فقبض عليه وقال : هذا للمسلمين، فقالت : كيف وهو عوض من هديتي ، قال: بيني وبينك أبوك، فقال عليّ: لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين لأن بريد المسلمين حمله .
يأخذ ولاته بما أخذ به نفسه : روى أن عمر بن الْخطاب كتب إِلَى ابي مُوسَى الاشعري أما بعد فَإِن أسعد الرُّعَاة عِنْد الله من سعدت بِهِ رَعيته وَإِن أشقى الرُّعَاة عِنْد الله من شقيت بِهِ رَعيته وَإِيَّاك أَن ترتع فترتع عمالك فَيكون مثلك عِنْد الله مثل بَهِيمَة نظرت إِلَى خضرَة من الأَرْض فرتعت فِيهَا تبتغي فِي ذَلِك السّمن وَإِنَّمَا حتفها فِي سمنها وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الْوَالِي مَأْخُوذ بظُلْم عماله وظلم جَمِيع حَوَاشِيه فَكل ذَلِك فِي جريدته وينسب اليه .
كان عمر بن الخطاب يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم. تأتيه القوافل من الذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وهو يصلي وفي بردته أربع عشرة رقعة من الفقر والعوز. هذا الرجل؛ الذي قضى على إمبراطورية هرقل، وجعل عاليها سافلها، لا يجد خبز الشعير ليأكله. كان رضي الله عنه ينام الناس في عاصمة الخلافة ولا ينام، يشبع الناس ولا يشبع، يرتاح الناس ولا يرتاح. كان رضي الله عنه إذا هدأت العيون، يأخذ درّته ويجوب سكك المدينة، علّه يجد ضعيفاً يساعده ،أو فقيراً يعطيه، أو مجرماً يؤدّبه. فهم معنى كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فهما حقيقيا فطبق الاقوال الى أعمال خير تطبيق .
لقد ضرب المسلمون أروع الأمثلة في النزاهة فلا تضاهيهم فيها أمةٌ من الأمم، أرأيتم خليفةً بيديه خزائن بيوت مال المسلمين، يأمر فيها بما يشاء، يرى ابنته تتهاوى من الضعف لا يعطيها ما يُقوِّم به ضعفها؛ لتصبح مثل قريناتها !!. تحريّاً منه للعدل بين الرعيَّة، فليس لأهل بيته خصيصةٌ دونهم - رضي الله عن عمر وجمعنا به في الجنة - وإني ما سقتُ هذه الأمثلة السامية إلا سعياً في إحياء خُلُق النزاهة في النفوس وحثّاً وتذكيراً بأهميَّته ولبيان ما عند المسلمين من القدوات الذين سبقوا بهم الأمم فضلاً ونبلاً .
فأنت أيُّها الموظف والمسؤول مهما كانت درجتك صغيرة أم كبيرة كن نزيهاً في عملك، وأدِّ الأمانة التي تحمَّلتها، واحذر من كلِّ ما يخدشها، أو يطعن فيها، فأنت خصيم نفسك، وما وُضعت إلا لخدمة غيرك ، فإيَّاك أنْ تستغلَّ منصبك في عملٍ تبوءُ بإثمه غداً فتندم . يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات